تعالى في كتابه العزيز: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً} فجعل الوفاء بالقنطار والغدر بالدينار إشارة إلى أن الوفاء أمكثر شيوعاً في أخلاق أهل الكتاب. وحسبهم ذلك مدحاً وفخاراً. وليس لي أن أتوسع في التفسير وإنما أستشهد على صدق هذه الآية بحادثتين وقعتا في بغداد وفي مصر:
فمصداق الشطر الأول: أن ابن الفرات وزير العباسيين المشهور كان يودع أمواله عند كثيرين من صنائعه المخلصين له استعداداً للطوارئ واستظهاراً من غدر الأيام. أخبر في إحدى نكباته بأن له عند يوسف بن فيجاس (أو بنجاس) وهرون بن عمران الجهبذين اليهوديين سبعمائة ألف دينار فأقرا في الحال بالمال ودفعاه وقدره 420 ألف جنيه مصري.
ومصداق الشطر الثاني: أن زوجة الأخشيد كانت قد أودعت عند رجل من اليهود جرة من النحاس وضعت فيها ثوباً منسوجاً بالذهب وبدائره من الجوهر شيء كثير. فلما زالت دولة الإخشيديين واستولى الفاطميون على مصر ذهبت المرأة بعد زوال عزها إلى ذلك الذي جعلته موضع ثقتها واستأمنته على ذخيرتها فأنكر. فقالت: خذ بعض الثوب فلم يفعل. فالتمست أن ينعم عليهم بكم واحد ويأخذ الباقي حلالاً فلم يقبل وكان في الثوب تسع وعشرون درة من الدرر الغوالي فأتت إلى قصر المعز تتعثر في أطمارها وهي أقرب إلى اليأس منها إلى الرجاء ولسان حالها ينشد بيت بنت ملك العرب التي أخنى عليها الدهر مثلها وهي حُرقة بنت النعمان بن المنذر:
فبينا نسوس الناس والأمر مرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأفٍ لدنيا لا يدوم نعيمها ... تقلب تارات بنا وتصرف
حتى إذا أتت قصر المعز وهي ذليلة بعد ذلك العز. عرضت عليه قصتها. فأحضر الرجل فأنكر. فبعث إلى داره من خرَّب عض حيطانها. فظهرت الجرة في أحد الجدران ورأى المعز الثوب وتعجب من الجوهر واللؤلؤ الذي فيه. ووجدوا أن اليهودي أخذ من صدره درتين فاعترف أنه باعهما بألف وستمائة دينار فسلم الخليفة الثوب إلى صاحبته فحمدت الله الذي أظهر صدقها واجتهدت في أن يأخذه ويعطيها مهما أراد فلم يفعل. فقالت: يا سيدي هذا الثوب كان يصلح لي وأنا زوجة صاحب مصر فأما الآن فلا حاجة لي به وهو لا يليق