أما بعد أصلح الله أمير المؤمنين وأتم عليه النعمة وألبسه المعافاة والرحمة فإن أمير المؤمنين حفظه الله يجمع مع علمه المسألة والاستماع كما كان ولاة الشر يجمعون مع جهلهم العجب والاستغناء ويستوثق لنفسه بالحجة ويتخذها على رعيته فيما يلطف له في الفحص عن أمورهم كما كان أولئك يكتفون بالدعة ويرضون بدحوض الحجة وانقطاع العذر في الامتناع أن يجترئ عليهم أحد برأي أو خبر مع تسليط الديان. وقد عصم الله أمير المؤمنين حين أهلك عدوه وشفى غليله ومكن له في الأرض وآتاه ملكه وخزائنها من أن يشغل نفسه بالتمتع والتفتيش والتأثل والإخلاد وأن يرضا ممن آوى بالمتاع به وقضاء حاجة النفسي منه وأكرم الله أمير المؤمنين باستهانة ذلك واستصغاره إياه وذلك من أبين علامات السعادة وأنجح الأعوان على الخير وقد قص الله عز وجل علينا من نبأ يوسف بن يعقوب أنه لما تمت نعمة الله عليه وآتاه الملك وعلمه من تأويل الأحاديث وجمع له شمله وأقر عينه بأبويه وأخوته أثنى على الله عز وجل بنعمته ثم سلا عما كان فيه وعرف أن الموت وما بعده هو أولى فقال: توفني مسلماً وألحقني بالصالحين.
وفي الذي قد عرفنا من طريقة أمير المؤمنين ما يشجع ذا الرأي على تناوله بالخبرة فيما ظن أنه لم يسبغه إياه غيره وبالتذكير بما قد انتهى إليه ولا يزيد صاحب الرأي على أن يكون مخبراً ومذكراً. وكلٌّ عند أمير المؤمنين مقبول إن شاء الله. مع أن مما يزيد ذوي الألباب نشاطاً إلى إعمال ذوي الرأي فيما يصلح الله به الأمة من يومها أو غابر دهرها الذي أصبحوا قد طمعوا فيه ولعل ذلك أن يكون على يدي أمير المؤمنين فإن مع الطمع الجد ومع اليأس القنوط وقلما ضعف الرجاء إلا ذهب الرخاء. وطلب المويس عجز وطلب الطامع حزم. ولم ندرك الناس نحن وآباؤنا إلا وهم يرون فيها خلاً لا يقطع الرأي ويمسك بالأفواه من حال والٍ لم يهمه الإصلاح أو أهمه ذلك ولم يثق فيه بفضل رأي أو كان ذا رأي ليس مع رأيه صون بصرامة أو حزم أو كان ذلك استئثاراً منه على الناس بنشب أو قلة تقدم لما يجمع أو يقسم لو حال أعوان ينيل بهم الولاة ليسوا على الخير بأعوان وليس له إلى اقتلاعهم سبيل لمكانهم من الأمر ومخافة الدول والفساد إن هو هاجهم أو انتقص ما في أيديهم أو حال رعية متزرة ليس لها من أمرها النصف في نفسها فإن أُخذت بالشدة حميت وإن أُخذت باللين طغت. وكل هذه الخلائق قد طهر الله منها أمير المؤمنين فآتاه الله