أما أسلوبه، فهو الذي وصفوه بالسهل الممتنع ... إنه رقيق في التعبير، بليغ باللفظ، الكلمات فيه على قدر المعاني، والجمل تطول حيناً، وتقصر حيناً آخر، وهو في جميع الأحوال لا يتكلف، ولا يتصنع، بل يرسل كلماته على سجيتها، ويهدف إلى التركيز على المعنى، دون أن يعطي كبير اهتمام للمبنى، إنه نثر العالم المفكر، لا الأديب الذي تغريه الصنعة، ويسيطر عليه الأسلوب والمظهر.
ويتجلى أسلوبه هذا، في جميع كتبه ومقالاته ... غير أن القلم يجمح به أحياناً، فيشتط الخيال، ويطيب له أن يعنى بالصنعة والعبارة، فيكثف جمله وعباراته، ويختصر في ألفاظه وكلماته. ومثل هذا فعله في كتابه "المذكرات" ولاسيما حين يتحدث عن الشباب، ويصف الشيخوخة، ويتوقع الرحيل، فيحاسب نفسه دون هوادة. لنستمع إليه يقول:
"يا نفس لا تغضبي، ولا تعتبي، فقد عمرت طويلاً، ومتعت كثيراً، وفتنت بجمال الوجود، وجلال الطبيعة، وهمت بصنع الخالق والمخلوق، واستكثرت من الخلان والمعارف، وسعدت، إذ كنت أقرب إلى التفاؤل من التشاؤم، وإلى الرجاء أدنى من القنوط، وإلى السرور أكثر من الغم. وعشت في سلطان الرضا طيبة الطعمة، لا يد لأحد عندك".
تضافرت عدة معطيات في تكوين شخصية محمد كرد علي بهذا التميز، وكان للزمان والمكان بدورهما تأثير فعال في تشكيلها على هذه الحال من التفرد، فقد جاء إلى الدنيا في فترة كانت فيها البلاد العربية، وخاصة بلاد الشام ترزح تحت نير الاحتلال العثماني الذي فُرض عليها، بحيث كان الشرق العربي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر غارقاً في بحر من الظلم والظلام.
وكانت سياسة التتريك المفروضة على العرب، تجعل من يتقن الكتابة والقراءة باللغة العربية إنساناً ذا شأن، ومن هنا انصرف محمد كرد علي إلى القراءة والكتابة في سن مبكرة كان أولى بدايات تكوين شخصيته المتفردة ... وعن تلك المرحلة يقول: