مجله الرساله (صفحة 57205)

ألكسيس كاريل

للأستاذ عبد الفتاح الديدي

عقلية من تلك العقليات الخصبة التي أفادتها الخبرة أكثر مما أفادتها المعلومات، وذهن صوفي متطلع إلى معاني الحياة بين المظاهر المعاشية دون توقف عند حدود المسطور والمقروء. فهو مثال الرجل الذي يحس الإنسان عند قراءته بأنه في حضرة مفكر ابتعد عن التفاصيل والتفت إلى الكليات ونظر في حقائق الامور، لا من حيث هي مبحث موقوف على نوع خاص من أنواع الدراسة، وإنما من حيث هي مجال للتأمل والتدبر في كل حين، وعند كل إنسان. فثقافته أكبر من تعليمه، وتربيته أكثر من معرفته، فجاءت كتبه حية تنبض فيها الدم، عميقة تأسر اللب، واضحة وضوح العبقرية المتزنة بعد أن اضطربت في كمينها عصارة العلم والفلسفة والأدب جميعا.

ذاك هو الكسيس كاريل مؤلف كتاب الإنسان ذلك المجهول ولد في فرنسا بالقرب من ليون في سنة 1873. وبعد أن نال الدكتوراه ودرجة أخرى في العلوم سافر إلى الولايات المتحدة عام 1905 حيث اشترك في معهد روكفلر للأبحاث الطبية بنيويورك ولم يعد من هنالك إلى فرنسا مرة أخرى إلا بعد أربع وثلاثين سنة أي في عام 1939، واشترك بعد هذا في أعمال حربية حتى نوفمبر من عام 1944 حيث مات تاركا تراثا علميا رائعا ومخليا بعض الكتب من غير إتمام. ومن مؤلفاته كتاب عن الصلاة وكتاب بعنوان (الطب الرسمي وطب الزندقة) وقصة كتبها في سن الثلاثين بعنوان (رحلة مدينة لورد). وهذه القصة بوحي من زولا ومطبوعة في مجموعة تضم يوميات وتأملات وابتهالات. أما كتابه عن (سير الحياة) فقد كان يزمع أن يجعله على طراز الإنسان ذلك المجهول ومكملا له. إذ جاء كتابه الإنسان ذلك المجهول فريدا في نمطه، فذا في نوعه، ومشجعا له على أن يتبعه بآخر من نفس الطراز. وقد اشتهر هذا الكتاب في الأوساط الثقافية جميعها: أوربية وشرقية، لما فيه من تجربة إنسانية عميقة ونظرة عليمة ممتزجة بروح صوفية جارفة.

وقد حاول كاريل أن يوقف هذا الكتاب بصفحاته الثلاثمائة على دراسة الإنسان من نواحيه المختلفة؛ وكان يؤمن بأنه لا بد من أن نعطي تخطيطا عاما لما تقدمه لنا العلوم المختلفة من المساعدات إذا شئنا أن ندرك حقيقة ذواتنا وأن نقف على ماهية نفوسنا. ومن الضروري

طور بواسطة نورين ميديا © 2015