مجله الرساله (صفحة 31302)

أما هو فلم يسكت. . . بل قذف بالصحاف التي وضعتها أمامه حين جلس إلى المائدة. . . قذف بها إلى الأرض، فتحطمت محدثة ضجة أفزعت الأطفال فأجفلوا وجفت حلوقهم عن ازدراد ما في أفواههم من طعام. . . وكأن لم يكفه ذلك، فصاح على الفور:

- يا للأنذال المجرمين.

فقالت هي في لهجة تساؤل لينة: من تعني يا عزيزي، وماذا أغضبك؟. . . ولم تكد تتم قولها حتى زجرها بصياحه:

(من أعني؟ أتسألينني لم أنا غاضب؟ حسن، إذاً فاعلمي أني حاقد على نفر من الجبناء رأيتهم منذ حين، خمسة أو ستة حسبما أذكر - ما لذاكرتي تخونني كأنها تأبى أن تذكرني أهاجوا الدم في عروقي - ومع هذا فإني أذكر أنهم أخذوا يذعرون طرقات المدينة محتمين بالجند الألمان الذين ساروا إلى جانبهم دون أن يعرف الخجل إليهم سبيلاً. . . يا للحسرة ويا للألم، لقد هربوا من الميدان وفروا من واجبهم المقدس. . . لعمري أني لا أدري أي شراب هذا الذي سلبهم كل نخوة وإدراك. . . يا للعار!)

وهنا عادت الزوجة إلى لهجتها الوادعة فقالت: (خفف عن نفسك يا عزيزي ولا تتعجل في الحكم، فلربما عاودهم الحنين إلى بلادهم فآثروا التحرر من خدمة الجيش. . . أو ربما)

ولكنه لم يدعها تتم قولها إذ بادرها بالصياح:

(أو تجرئين يا خائنة على تبرير فعلتهم؟)

قالها وهو يلوح بقبضته الغليظة في الهواء، ثم ما لبث أن أهوى بها على المائدة واستأنف القول (ولكنك - كسائر النساء - تعجزين عن فهم شيء من أمور الدنيا، فلقد تأثرت عقلياتكن بسذاجة الأطفال وغطت غشاوة من الجهل على أبصاركن، فبانت الواحدة منكن لا تحسن التمييز بين الضعف والخيانة. . . أفلا تدركن ما قد فعل أولئك الأوغاد؟ إنهم لمارقون يجب أن تتبرأ منهم فرنسا بل وتلقي بهم إلى الموت. . . وإلا فإني - وقد أمضيت في الجيش سبعة أعوام كاملة - لن أتردد في الانزواء مبتعداً عن الأرض التي يطئون بأقدامهم الدنسة) تناثرت هذه الكلمات من فم الرجل بل من قلبه - مصدر إيمانه وموطن عقيدته - قوية دافقة فاهتزت لها أركان الغرفة وردد البيت صداها مدوياً مزمجراً.

وكأني بها قد استنفدت كل جهده وهدت من كيانه، فخرج إلى الفضاء كي يسري عن نفسه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015