فالجاحظ لم ينتصر للفظ، ولم يقف إلى جانب الأسلوب، إلا لمواجهة هذا الخطر الداهم على اللغة، والذي أشرنا إليه آنفا، وإلا فإنه حفي بالمعنى مؤثر له، حريص عليه ما دام لم يجر على الأسلوب، ولم يفسد كيانه، ولم يشوه بنيانه.
وللجاحظ في هذا المقام عبارة مشهورة يقول فيها:
"والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك"
"وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير" [40] .
وأنت ترى أن "الجاحظ"ليس له هنا حديث عن الإعجاز في القرآن، وإنما هو يتحدث عن صفة الكلام البليغ، وعن مأتى البلاغة فيه، ومجال التفاضل بين الكلام والكلام.
وإنه بهذا الميزان الذي يوزن به الكلام، وتعرف به منازله، يمكن أن يعرف فضل القرآن على غيره من الكلام، ويمكن أن يستدل على وجه الإعجاز فيه.
وهذا ما كان من "عبد القاهر"في كتابيه: "دلائل الإعجاز"و"أسرار البلاغة" ... حيث أقام مذهبه في الإعجاز على هذا الميزان، وهو "النظم" ... كما سنرى ذلك في موضعه من هذا البحث.
هذا "والجاحظ"إذ يرى الإعجاز في "النظم"لا يرى النظم نظما إلا إذا كان على شيء من السعة والامتداد، بحيث يحمل معنى مؤلفا من حقائق مترابطة، يسند بعضها بعضا، فتتشكل منها صورة سوية.
أما النظم الذي يقوم على جملة أو جملتين، أو كلمة أو كلمتين، فلا يدخل في هذا الباب، ولا يعد نظما ينكشف به معدن الكلام وتبين روعته.
يقول الجاحظ في هذا:
"ولأن رجلا من العرب لو قرأ على رجل منهم أي من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة طويلة أو قصيرة، لتبين له في نظامها ومخرجها، وفي لفظها وطبعها، أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها".
ثم يقول: