وحين نلقى نظرة على العالم اليوم، نجد أممه – إلا من رحم الله – تجعل سعيها، وكدها، ونصبها، وتصارعها، وأول أهدافها وآخرها، الحياة الدنيا، لذا ترى أفرادها يموج بعضهم في بعض: فيتصارعون في عنف، ويتناحرون بلا هوادة، ويتقاتلون بوحشية، ويجدُّ القوي ليبتلع الضعيف، ويخفُّ العَجِل ليلتهم المتأني، ويتحرك المتكلم ليأكل الصامت، كوحوش الغاب، لا شريعة تحكمها، ولا نظام يدبر أمرها، بل تضرب الفوضى بينها أطنابَها، وتعيش هكذا في فزع العدوان ورعب استباحة الحمى؛ وأضحت حياة الناس اليوم كمِرْجَلٍ محكِم الغطاء زاد غليانه، فأوشك أن يتفجر، وإذا انفجر توزع خطره على من حوله جميعاً، فأهلك من أهلك، وشوّه من شوّه، ومن عاش مُشَوَّهاً، عاش عيشة بئيسة يَئنُّ فيها مما ألَمَّ به وأصابه: في معتقده، أو في نفسه، أو في عقله، أو في عِرْضه، أو ماله، ويحاول أن يلتمس سبيلاً للنجاة، فلا يهتدي إليها، ذلك بأنَهُ كَبَّلَ نفسه بأغلال وآصار حسبها حريةً وتقدماً، لكنها في حقيقة أمرها دفن للنفوس في مقابر الحضارات الزائفة، إنها {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (النور) .
وما جرَّ الإنسان إلى هذا الشقاء إلا إعراضه عن هدى خالقه وشرعه الذي لا تطيب الحياة بدونه، وقد لَفَتَهُ ربنا سبحانه إلى هذه الحقيقة فقال: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (طه) ..