ثم يعلّق على هذه النصوص بقوله: إذا قالوا (أكل الأسد) فإنما يذهبون إلى الأكل المعروف، وإذا قالوا (أكله الأسود) فإنما يعنون النهش واللدغ والعضّ فقط.
ويقول في باب آخر في مجاز الذوق وهو قول الرجل إذا بالغ في عقوبة عبده: ذق! وكيف ذقته؟ وكيف وجدت طعمه؟.
وقال عزّ وجلّ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} .
ويختم كلامه بقوله [8] : وللعرب إقدام على الكلام؛ ثقة بفهم أصحابهم عنهم، وهذه فضيلة أخرى، وكما جوّزوا بقولهم (أكل) وإنما عضّ، و (أكل) وإنما أفنى، و (أكل) وإنما أحاله، و (أكل) وإنما أبطل عينه جوّزوا أيضا أن يقولوا: (ذقت) ما ليس بطعم، ثم قالوا: (طعمت) لغير الطعام، وقال العرجي:
وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
وإن شئت حرمت النساء سواكم
وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} ، يريد لم يذق طعمه.
وعلى هذا النهج وضّح الجاحظ كثيرا من المعاني التي ربما أشكل فهمها على غير الواقفين على أسرار العربية، وبين المراد منها مستشهدا باستعمالات العرب؛ إذ إن القرآن الكريم نزل بلغتهم؛ فهو يسوق اللفظ ويبيّن المراد منه في القرآن ويستدل على أن العرب يستعملونه هذا الاستعمال، وإن جاء ذكر المجاز في كلامه فيعني به ما عناه أبو عبيدة وما يقصد منه في اللغة، ولا يستطيع منصف أن ينسب للجاحظ أو يأخذ من كلامه أنه قصد من المجاز ما ذهب إليه المتأخرون من أنه قسيم الحقيقة.