وطبيعي أن دينا يعد الإنسان لمهمة الهداية الإلهية والقيادة العالمية، يستحيل أن يرضى عن تلك الحفلات الموسيقية التي يحتشد لها عشرات الآلاف، بل الملايين من الناس، عن طريق المشاهدة المباشرة.. وغير المباشرة، وقد رتَّب في صدرها المنقطعون إلى العزف بمختلف الأدوات حتى خشاخيش الأطفال.. وانتصب في وسطهم ذلك المغني أو تلك القينة، تتهاوى على أعين الهواة في تمعج وكبرياء يخيل إليها أنها تحيي وتميت.. وقد يتوهم بعض ناظريها أن بيدها الإسعاد والإشقاء، فلا يتمالك أن يقفز نحوها ليمرِّغ وجهه على قدميها، كما فعل الممسوس الذي نشرت مجلة (العربي) صورته، وجبهته على قدمي أم كلثوم، وهي تغني على المسرح الفرنسي في باريس.. ولم يكن هذا المعتوه بدعا من الخلق، فقبله كان شاعر الفجور الأكبر عمر بن أبي ربيعة إذا أخذه الوجد بالصوت يصرع فلا يصحو إلا أن ينضح بالماء.. وفي الأندلس يبلغ الهيام بالغناء إلى حد أن خليفة لا يتمالك أن ينخلع من وقاره بازائه، فإذا هو ينهض ليتراقص مع ابن شُهيد الشاعر الماجن على ألحان القيان.. ويسري ذلك في العامة حتى يحتشدون بالآلاف حول القصور ليشاركوا في السماع، تماما كما يفعل اليوم مئات الألوف بل الملايين حين يقضون معظم الليل في الاستماع إلى مسجلات تلك المغنية، التي برهن المليون من مشيعي جنازتها أن هذا الضرب من المخلوقات أعلى وأغلى في قلوبهم من عباقرة العلم، وأبطال الجهاد وسائر أصناف البشر دون استثناء..
ولعل قراء هذه الأسطر لم ينسَوا بعد أن زوجة رئيس الوزراء في إحدى دول المسلمين قد تخلّت عن بعلها وأطفالها لتلحق بفنان هامت بألحانه، وسكرت بأنغامه، فلم تصح إلا وقد نقضت غزلها وخربت بيتها بيدها، وخنقت في قلبها المسحور كل مشاعر الأمومة..