والباقلاني - وهو بصدد مواجهة هؤلاء الملحدين والمغرضين- يلقى اللوم على علماء العصر، خاصة مَنْ اشتغل منهم باللغة وعلم الكلام، ولم يلتفت إلى توضيح وجوه الإعجاز القرآني، والكشف عن أسرارها، ويحملهم تبعة من خلط في هذه المسائل، متأثرين ببعض مذاهب البراهمة, يقول: "وقد قصّر بعضهم في هذه المسألة - أي مسألة إعجاز القرآن -، حتى أدى ذلك إلى تحوّل قوم منهم إلى مذاهب البراهمة فيها، ورأوا أن عجز أصحابهم عن نصرة هذه المعجزة، يوجب ألا يستنصر فيها ولا وجه لها، حين رأوهم قد برعوا في لطيف ما أبدعوا وانتهوا إلى الغاية فيما أحدثوا ووضعوا، ثم رأوا ما صنفوه في هذا المعنى غير كامل في بابه، ولا مستوفي في وجهه قد أخل بتهذيب طرقه، وأهمل ترتيب بيانه" [12] .
بيد أنه يلتمس لبعضهم الأعذار، لأن البحث فيها - أي في مسائل الإعجاز ووجوهه- لم يكن يتيسّر إلا لمن كدّ فكره وأعمل عقله.. وأعدّ لهذه الدراسة نفسه..
"وقد يعذر بعضهم في تَفْريط يقع منه، وذهاب عنه، لأن هذا الباب مما لا يمكن إحكامه إلاّ بعد التقدم في أمور شريفة المحل، عظيمة المقدار، دقيقة المسلك، لطيفة المأخذ.." [13]
وفي هذه المرحلة التمهيدية، وقبل أن يبدأ في تنفيذ مخططه، وتوضيح المسائل التي ذكرها في مقدمته، يجد الباقلاني بدافع من غيرته على آراء السلف، وإيمانه الراسخ بها، أن يعرض بكتب الفرق الكلامية الأخرى، خاصة المعتزلة، وقد وجد بغيته في كتاب الجاحظ المعتزلي (نظم القرآن) فوصفه بالقصور والسطحية، وعدم الموضوعية، وأنه لم يأت فيه بجديد، بل هو صنف الجاحظ في نظم القرآن كتابا [14] ، لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله [15] ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى"يقصد الكشف عن وجوه الإعجاز القرآني وسرها.