فكون القرآن معجزا للخلق ممتنعا عليهم الإتيان بمثله، فهذا الأمر لا شك فيه، ولا موضع للجدال حوله، والأمر في ذلك أبين من أن نحتاج إلى أن ندل عليه بأكثر من الوجود القائم المستمر على وجه الدهر، من لدن عصر نزوله إلى الزمان الراهن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تحدى العرب قاطبة بأن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا عنه، وانقطعوا دونه، وقد بقي صلى الله عليه وسلم يطالبهم به مدة عشرين سنة، مظهرا لهم النكير، زاريا على أديانهم، مسفها لآرائهم وأحلامهم، حتى نابذوه وناصبوه الحرب، فهلكت النفوس، وأريقت المهج، وقطعت الأرحام، وذهبت الأموال، وقد كان قومه _ قريش خاصة _ موصوفين برزانة الأحلام، ووفارة العقول والألباب، وقد كان فيهم الخطباء المصاقع، والشعراء المفلقون، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بالجدل واللدد، فقال سبحانه: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ، وقال سبحانه: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} .
ثم يناقش الخطابي جماعة أخرى من العلماء حول فكرة الصّرفة التي عللوا بها إعجاز القرآن فيقول: "وذهب قوم إلى أن العلة في إعجازه الصّرفة أي صرف الهمم عن المعارضة وإن كان مقدورا عليها غير معجوز عنها، إلا أن العائق من حيث كان أمرا خارجا عن مجاري العادات صار كسائر المعجزات".
ويفند الخطابي هذا الرأي قائلا: "وليس ينظر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبي، ولا فخامة منظره، وإنما تعتبر صحتها بأن تكون أمرا خارجا عن مجاري العادات ناقضا لها، فإذا كانت بهذا الوصف كانت آية دالة على صدق ما جاء بها".