ثم إنه كان لا يفتر عن تلاوة القرآن في غدوه ورواحه، وفي سفره ومقامه، وهو الكتاب الذي ارتفع بمستوى البشرية، وعرفه الصفوة منهم فكان خير الزاد لهم، وكان يسرد الصوم سردا ثم يكون إفطاره في المسجد على شراب يصنع له في بيته، وحج أربعين سنة لا يشق عليه الحج لنشاطه الروحي العجيب، ولعلك في خلال هذا العرض رأيت كيف كان حظه من الصبر على عبادة الرب، ولقد أثمر ذلك ثمرة الصبر على كلمة الحق وعدم ادهان مع أي أحد، فشأنه الثبات والهدوء مهما عصفت رياح الجور، ولذا كان يتنازل عن عطائه في بيت المال مهما بلغ، ذكروا في هذا المقام أنه كان له من العطاء ما نيف على ثمانين ألفا مما يسيل لعشر معشاره لعاب أهل الدنيا وطلابها، فلما طُلب لأخذه لم يستفره، ولا حرك من رغبته ذرة، ولكنه يقول: لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان حتى ألقى الله تعالى فيحكم بيني وبينهم.

كلام البرم بهؤلاء البريء من كل ما يجيء من عندهم، ورحم الله ذلك الإمام العظيم، وكان يعد لذلك الاستغناء عدته بالتجارة التي أسلفت الإشارة إليها، ولا يضيع نصيبه من الطلب فيما يسر الله له، حتى قالوا إنه مات عن ثلاثة آلاف دينار، ولما دنت منيته قال معتذرا إلى ربه وهو أعلم به: اللهم إنك تعلم أني لم أجمع هذا المال إلا لأحفظ به نفسي وأصون به عرضي، وأعود به على جيراني وأهلي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015