ويختار لمراكز القيادة العسكرية أفذاذ الرجل الذين شهد لهم بالموهبة وعرفوا بالعبقرية في فنون القتال. وهؤلاء يجب أن يبقوا في منأى عن سياسة الدولة منصرفين لدارسة إمكانيات الدفاع والهجوم متتبعين لوسائل الحرب وفنونها. وعليهم أن يتلقوا من القائد الأعلى للمسلمين وهو خليفتهم الأوامر فينفذها على وجهها، ولنا في خالد بن الوليد رضي الله عنه أسوة حسنة إذ أسلم القيادة لأبي عبيدة بن الجراح أمراً من الخليفة عمر عقب انتصار المسلمين في اليرموك وأن الانصراف عن المسائل العامة هو الذي يمكن العسكريين من التعمق في التخصص واستغلال ملكاتهم أحسن استغلال. وإننا لنذكر والأسى العميق يقطع أنياط قلوبنا ما فعلته العصبية القبلية أو المشاركات لسياسية في عديد من قادتنا الكبار منهم قتيبة بن مسلم الباهلي فاتح المشرق وموسى بن نصير فاتح المغرب وطارق بن زياد فاتح أسبانيا. والله وحده يعلم ما كان يمكن أن يكون عليه مستقبل تلك البلاد في المشرق والمغرب لو قدر لهؤلاء القواد أن يبقوا على رأس جيوشهم يتابعون رسالة الفتح ويوطدون الملك في الأقاليم الجديدة قبل أن تتسرب إليها الخلافات وتدب فيها عوامل الضعف حتى انتهى بعضها إلى الانهيار واضطر المسلمون للجلاء عنها بعد قرون من فتحها وعمرانها ويجدر التنبيه على أن التفكير السياسي لكثير من قواد الدولة الإسلامية كان من أكبر عوامل التجزئة فيها، إذ طمع بعضهم بالملك فجعل لنفسه الأمر في البلاد التي ولي عليها ولم يبق له بالخلافة إلا اتصال اسمي فتعددت القيادات في الدولة الإسلامية ولم تكن على وفاق فقاتلت في جهات متعددة وهي متفرقة حين لم يكن بعضها يقاتل بعضا ولا أدل على ذلك من أن سيف الدولة الحمداني في القرن الرابع الهجري حمل وحده عبء الجهاد وغزو الدولة البيزنطية حتى استنفذ قواه ولم يبق له بقية من صمود، وأن الصليبيين لما دخلوا بيت المقدس ذبحوا خمسين ألفا من أبنائه المسلمين والمسلمون من