وأصدق من ذلك كله قول الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} [35] ، وهذا الفتح هو صلح الحديبية [36] .
ونحن نحس- بلا شك- أن جميع المتاعب التي عاناها الرسول صلى الله عليه وسلم، في جميع مراحل هذا الصلح، إنما كانت من أجل تكييف علاقته بقريش على نحو يحقق مصلحة الدعوة، ويمهد أمامها سبل الوصول إلى ما يريد لها من انتشار، وانتصار، وإلى ما يريد للناس من اهتداء وانتفاع … وبذلك لم تخرج علاقة المسلمين بقريش- كما تبدت من خلال ملابسات الحديبية الدقيقة - عن الخط العام، وهو كون علاقة المسلمين بغيرهم هي علاقة دعوة، يهدف - هذه العلاقة - إلى نشر الدعوة، وتعمل على تحقيق أهدافها التي من أجلها بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً.
وثمة ظاهرة أخرى في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام تدل على صحة ما نذهب إليه في تفسير علاقة الأمة المسلمة بغيرها من الأمم، وهذه الظاهرة هي إرساله صلى الله عليه وسلم الكتب إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام بعد رجوعه من الحديبية – لأنه - إذ ذاك - قد أمن السبل على أصحابه أكثر من ذي قبل، وتخفف مؤقتاً وإلى حد ما من التفكير في شأن قريش، فبعث - فيما روى ابن سعد في الطبقات الكبرى [37] ستة نفر في يوم واحد، يحملون كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء، وذلك في المحرم سنة سبع، ومن هؤلاء دَحية بن خليفة الكلبي، الذي توجه بكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيصر ملك الروم، وجاء في هذا الكتاب كما أخرجه البخاري رحمه الله بسنده: