لن أطيل عليك، فابنك هذا قد أخذ شهادته الجامعية بجدارة، وشرع يزاول عملاً يطعمه الخبز المأدوم، ويسقيه الماء القراح، وهو إلى جانب ذلك يقول الشعر، ويكتب الأدب، ويحب القراءة، على أني لا أدري أيظل في ضلاله القديم، أم يتخذ له طريقاً في الحياة رشداً.
وأما ابنتك الصغيرة التي تركتها ذات عامين، فلم تأخذ من التعليم إلاّ حظاً قليلاً، ولا أدري أكان في ذلك الخير لها أم الشر، ومهما يكن من أمر فأولو البنات هذه الأيام يصطفون لبناتهم من الأزواج من كان ذا مال وعقار، أو كان من الموظفين الكبار، ثم من كان ذا حسب ونسب، وقد يعبئون بذي الدين، وكثيراً ما يكون عيب الخاطب أنه ذو دين، وقد تعجب وتسأل، فيقول قائلهم أريد أن أؤمن حياتها، وأن أطمئن إلى راحتها، وليس أفضل في هذا المجال من ذي مال.
أما أنا فقد ذقت طرفاً من الفقر، وشيئاً من الغنى، فما وجدت الراحة هناك، وما وجدتها هنا، وجدتها طمأنينة نفس وعلاقة بالله صامتة، ليست بذات نفاق وضجيج وتجارة، فآثرت أن تنتقل ابنتك إلى بيت فيه صلاة وصيام، فيه خشية من الله وابتغاء مرضاته، ففي مثل هذه البيوت تكون الراحة، وفي مثل هذه البيوت يكون الأمان والاطمئنان.
أما ولدك الثالث الذي تركته رضيعاً لم يبلغ الفطام، فورقة صفراء من أوراق الخريف، ما هو بالعليل الذي تغشاه صفرة الموت، ولا بالهزيل الذي عضه الجوع وأذواه، لا، فجسمه يفيض نشاطاً وحياة وصبا، ولكنه في روحه ونفسه كسائر أبناء جيله وجنسه، خواء وخلاء، ضياع وقلق، وهيام في كل واد، يسيرون على كل طريق، ولكنهم لا يعرفون بيوت الله إلا قليلاً، ويتعلمون الدين، ولكنهم يسقون كما يسقى المريض دواءه المر، ويصغون إلى نداء الناصح الشفيق كأنما هم في حلم.
لا أريد أن أظلمه حقاً، أو أنقصه قدراً، فلقلبه الغافل بعض الأحايين صحو أرجو الله أن يطول، ولسمائه الغائمة بعض الأماسيّ وميض رغبة أسال الله أن يضطرم.