وقفزت من على الشاحنة تريد النجاة من الموت، ولكن الموت كان يترصدك على أسنة الصخور الحادة التي كسرت أعظمك، وأسالت دمك، وتركتك لقي على الأرض، لا ترى من حولك أُمّاً ترسل الدمع، ولا إلى جانبك أخاً يتوجع، ولا على مقربة منك عابر سبيل يحمل الوصية.
كنت أنا في مدينة الرياض بعيداً عنك مئات الأميال، وجاءني ورقة صغيرة فيها كلمات تسمى (برقية) ، تسلمتها في صباح يوم من أيام التدريس، تسلمتها على قلق، وقرأتها عجلان في لهفة، فإذا هي تنعاك إليّ، قرأتها مرة بعد مرة بعد مرة، وفي كل مرة كأني لم أقرأها من قبل، يا لله للمصائب المفاجئة! كأنما اتخذت عند الرحمن عهداً ألا تسبقني إلى الموت.
قرع الجرس، وجاء موعد الدرس، فطويت الورقة الحزينة، وأسكنتها جيبي في غير سكينة، ودخلت غرفة التدريس … لقد مضى على ذلك سبعة عشر خريفاً، وإني لأذكر اليوم كأنما كان الساعة. كان درساً في تاريخ الأدب عن ابن تيمية رحمه الله، وألمت بي في أثناء الإلقاء فترات صمت وذهول وشرود، ولكن الطلاب كانوا يحسنون الظن بي، فظنوا أني أتذكر معلومات نسيت، وأتصيد أفكاراً ندّت! وانتهت الحصة، وعدت إلى البيت، فقال أهله: ماذا هناك؟! فقلت لهم ما كان هنالك، فكان صمت، وكان تجهم ووجوم.
ومضت الساعات والأيام والليالي والأشهر، مضت بطيئة الخطو، ثقيلة العبء، مرَّة المذاق، أعاني فيها فقدك، وأعاني فيها مرض السكر الذي كنت لا أدريه.
ثم … ثم بعد طول عذاب وطول غياب يجيء يوم العودة، ويعود المدرسون إلى أهليهم وذويهم بعد فراق تسعة أشهر.
وكان العائدون في مطار الرياض يتحركون بخفة ورشاقة، وكانوا يتكلمون ببشر وطلاقة، كأنما هم عصافير الصباح.
أما أخوك فكان يتكلم، ولكنه لم يكن بليل الريق، وكان يتحرك، ولكن بغير جناح.