وكانت ليلة ليلاء أقضت مضاجع الوفد النجراني فلم يستطع إلى النوم سبيلاً.. وأمسك الحبر أبو حارثة عن الاسترسال في الكلام ليستبين اتجاه القوم، وترك للعاقب عبد المسيح أن يعالج المشكلة بما يملك من حسن السياسة.. فعمد هذا إلى الرؤساء الأربعة عشر، فخلا بهم على حدة ثم قال لهم، في تصميم الرجل الذي يقدر عبء المسئولية الملقاة على عاتقه: "والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل في خبر صاحبكم الذي تختلفون عليه. ولقد علمتم مالا عن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلاّ ألف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم - السيد المسيح - فوادعوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم"..
وتلقى الرجال موعظة أميرهم في تدبر عميق.. ولم يشكوا في أنه قد أخلص لهم النصيحة، وإن لم يكن معظمهم على كبير استعداد لفهم ما ذهب إليه من رأى غريب جديد في المسيح. وبدافع من خوف المصير المجهول آثروا جانب الموادعة، ثم لم يلبثوا إلاّ ريثما ارتفع مد الضحى حتى انطلق هؤلاء إلى الرسول يبلغونه قرارهم..
وتكلم صاحب أمرهم فقال: "يا أبا القاسم.. قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا.. ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا"..
وكدأب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تجنب الإكراه لم يأب عليهم ما سألوا.. وأنظرهم قائلاً: "إيتوني بالعشية أبعث معكم القوي الأمين".
ولما حان الموعد نظر رسول الله عن يمينه وعن يساره، حتى رأى أبا عبيدة عامر بن الجراح، فدعاه وقال: "أخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه"..
وغادر الركب المدينة في طريقه عائداً إلى نجران..