ومن أحق من الحبر الثقة أبي حارثة بأن يرجع إليه في مثل هذا الأمر الخطير..
على أن أبا حارثة ظل مشغول الفكر عما يديرون من ذلك الحديث، لا يكاد يشاركهم في شيء منه.. فلم يسعهم إلاّ احترام صمته، إذ قدروا أنه لابد غارق في صلاة قلبية تقطعه عما حوله.. وقد قدّر هو بدوره موقفهم منه، فكان لا يظن عليهم بالإلتفات والكلام كلما أحوجهم رأيه في أمر الإبهام الذي يستحوذ على كثرتهم في شأن السيد المسيح (ع) .. ذلك أن اجتماعهم على عقيدة الدولة في تأليهه.لم يمنعهم من الإختلاف على تحديدها، فهو في مفهوم بعضهم عين الله، ولدى غيرهم ولد الله، وعند الآخرين ثالث ثلاثة يؤلفون بمجموعهم ذات الله..
ولم يكن الموضوع أكثر وضوحاً في ذهن أسقفهم الجليل منه في أذهانهم.. فكان كل ما يملكه من رأي في هذا الشأن هو أن يردد عليهم كلام الأحبار، الذين اتخذوا قرارهم بتأليه السيد المسيح في مجمع نيقية، وفقاً للفلسفة الأفلوطينية التي تشربتها من قبل، والتي تقرر ثلاثية الأقانيم في ذات واحدة، ومعتبرين كل من يخالفهم في هذا الإتجاه، فيقبل عقيدة أريوس في بشرية المسيح، كافراً محروماً من نعمة الميسحية ... فإذا رأى أن كلامه غير واضح الدلالة في أذهان الرجلين قطع كل تردد بقوله: "إن الأمر فوق تصورات العقل البشري.. فما على المسيحي المستقيم سوى التسليم"..