ومن وحي هذه الكلمات التامات الخالدات الباقيات الواردات في كتاب الله كان البحث العلمي الموضوعي في مختلف فروع المعرفة الإنسانية الذي كان نتاجه العلمي تراثا إسلاميا ضخما خالدا باقيا، وحضارة إسلامية بحتة أصلية ليست مقتبسة وليست منقولة عن غيرها من حضارات، حضارة لها من صفات الاستقلال والمرانة ما جعلها تفوق غيرها من حضارات بل وتحتويها وتجعلها أثرا دارسا، فبظهور الحضارة الإسلامية انتهت الحضارة الفارسية وحضارة الرومان الوارثة الفعلية للحضارة اليونانية القديمة، وكانت الغلبة لحضارة القرآن, حضارة الإسلام.
وخلاصة القول أنه إذا كانت قوة الدعوة الإسلامية في قلوب رجالات الإسلام الأوائل قد مكّنت للفتوحات الإسلامية في بلاد الشام وفارس ومصر وبلاد المغرب والأندلس أي ما يعرف اليوم بمنطقة الشرق الأوسط تقريبا بالإضافة إلى أجزاء من آسيا وأوربا فإن حضارة القرآن الكريم قد شملت كل هذه الأقاليم، إنّ القرآن كمصدر ومنهل للعلم والعرفان قد فتح أمام الباحثين كل أبواب المعرفة الإنسانية. وإن الثقافة والحضارة التي لازمت الإسلام وعرفت باسمه لم تخلق في فراغ ولم تنشأ من عدم، فأصلها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بدأت بجمع القرآن الكريم في أيام الخليفة الأول أبي بكر الصديق في رقاع وعسف وشقاف ثم دوّنت في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان في مصحف موّحد وزّعت نسخه على الأقاليم والأمصار.
وقد خشي المسلمون الأوائل أن يقع اللحن في قراءة القرآن بسبب اتساع الدولة الإسلامية واعتناق الموالي للإسلام، فابتدعوا النقط والشكل والإعجام، وابتكروا قواعد النحو والصرف بل ووضعوا القواميس العربية والمعاجم اللغوية لمعرفة معاني الكلمات ومشتقاتها ومترادفاتها رغبة في إيضاح الغامض من آيات التنزيل وتيسيرا على المشتغلين بالتفسير تأكيدا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .