وهكذا عرف المسلمون الأولون منزلة العلم وفضله وأدركوا مبلغ الحاجة إليه في دنياهم وبناء مجتمعاتهم ودعم سلطانهم، وأنه هو الذي يوضح لهم معالم السير على النهج القويم، ويفتح لهم آفاق الحياة العزيزة الكريمة ويكشف لهم عن أسرار العوالم الكونية ونواميسها، ويقيم لهم وسائل الحياة والقوة، ويبني لهم قواعد السيادة والمجد.

عرفوا كل هذا فوجهوا عزائمهم إلى طلب العلوم على اختلاف أنواعها ولم يشغلهم عن طلبها ترف الحضارة ونعماؤها، ولا ثنت عزائمهم عنها بأساء الحياة وضراؤها، وبحثوا عنها في آيات الله التشريعية وآياته الكونية، وأقاموا لها في كل قطر إسلامي منارا عاليا، وحملوا مشاعلها إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولم يقفوا بجهودهم عند نتاج عقولهم وأفهامهم بل اتجهوا بها أيضا إلى علوم السابقين يدرسونها ويمحصونها ويأخذون عنها ويزيدون عليها، وما هداهم إليه البحث والنظر والاستدلال فاستخرجوها من زوايا الإهمال والنسيان، وأخذوا إبريزها بعد أن زادوه نقاء وصفاء، وردوا زائفها بعد أن بينوا زيفه وفساده، لأنهم كانوا يطلبون هذه العلوم طلب الناقد البصير، لا طلب التابع المقلد، واكتمل لهم من ملكات العلوم والفنون في جيل واحد، ما لم يكتمل لأمه من الأمم الناهضة في عدة أجيال.

وإن تعجب لهذه النهضة العلمية التي تخطت مراحل النهوض في الأمم فعجب أنهم قاموا بها على رغم الأحداث العاتية التي حملوا أعباءها، والحروب الطاحنة التي خاضوا غمارها لأن الأحداث والخطوب وإن بلغت من العنف ما بلغت لا تستطيع أن تقف في طريق العقائد التي انطوت عليها القلوب، ولا أن تمنع العزائم القوية من الوصول إلى أغراضها وأهدافها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015