للإجابة على هذا التساؤل لا بدّ لنا من الوقوف على نصين للفراء قال في الأول مفسّراً قوله تعالى: {ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيبَ فِيْهِ هُدَىً لِّلْمُتَّقِيْنَ} [53] قال: "يصلح فيه ذلك من جهتين، وتصلح فيه هذا من جهة، فأما أحد الوجهين من ذلك فعلى معنى: هذه الحروف يا أحمد ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك، والآخر أن يكون ذلك على معنى يصلح فيه هذا؛ لأن قوله هذا وذلك يصلحان في كل مكان إذا ذكر ثم أتبعته بأحدهما بالإخبار عنه ألا ترى أنك تقول قد قدم فلان فيقول السامع قد بلغنا ذلك، وقد بلغنا هذا الخبر، فصلحت فيه هذا لأنه قد قَرُبَ من جوابه فصار كالحاضر الذي تشير إليه، وصلحت فيه ذلك لانقضائه والمنقضي كالغائب، ولو كان شيئاً قائماً يرى لم يجز مكان ذلك هذا، ولا مكان هذا ذلك " [54] .
ثم أخذ الفراء يوجه إعراب الآية فقال في إعراب هدىً: "وأما قوله تعالى: {هُدَىً لِلْمُتَّقِيْنَ} فإنه رفع من وجهين ونصب من وجهين" [55] فذكر أوجه الرفع، وقال عن أوجه النصب: "فأما النصب في أحد الوجهين فأن يجعل الكتاب خبراً لذلك فتنصب على القطع لأن هدى نكرة اتصلت بمعرفة قد تمّ خبرها فنصبتها؛ لأن النكرة لا تكون دليلاً على المعرفة، وإن شئت نصبت هدىً على القطع من الهاء التي في فيه كأنك قلت لا شكّ فيه هادياً" [56] .
ومراد الفراء بقوله: "فتنصب على القطع أي على الحال فالقطع عنده الحال وهو من مصطلحات الفراء.
وقد ألحَّ الفراء على مسألة النصب على الحال في آيات كثيرة منها قوله تعالى [57] : {طس تِلْكَ آياتُ القُرْآنِ وكتابٍ مُّبِيْن هُدًى وَّبُشْرَىً للمُؤْمِنِيْنَ} [58] وقوله تعالى [59] : {ألم تِلْكَ آياتُ الكِتَابِ الحَكِيْمِ هُدَىً وَّرَحْمَة للْمُحْسِنِيْنَ} [60] .