أنه لا يخفى أن نظم الكلام بعض منه فإن تركته ذهب بعض معناه، فإن للتركيب معنى زائداً على أجزاء الأشتات فلا شك أن من حرم فهم النظام، فقد حرم حظاً وافراً من الكلام ويوشك أن يشبه حاله بمن قبله من أهل الكتاب كما أخبر الله تعالى عنهم: {فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وأخاف أن تكون هذه العداوة والبغضاء التي نراها في المسلمين من هذا النسيان فلا تهدأ عداوتهم ولا يرجعون من اختلافهم وسبب ذلك ما ذكرنا في الأمر الأول؛ لأننا إذا اختلفنا في معاني كلامه اختلفت أهواؤنا، وصرنا مثل أهل الكتاب، غير أن رجاءهم كان بهذا النبي وهذا القرآن الذي يرفع اختلافهم وأما نحن فليس لنا إلا هذا الكتاب المحفوظ".
وهكذا فإن علم النظام الذي اكتشفه الفراهي علم جامع ليس كعلم المناسبة الذي كان مركزاً لأفكار السلف ومطمحاً لأنظارهم؛ لأن التناسب إنما هو جزء من أجزائه والنظام شيء زائد عليه بل أوسع منه وأعم فعلم النظام لا يظهر التناسب وحده بل يجعل السورة كلاماً واحداً، ويعطيها وحدانيتها التي بها صارت سورة كاملة بنفسها ذات عمود تجري إليها أجزاؤها ويربط الآيات بعضها ببعض حتى تأخذ كل آية محلها الخاص ويتعين من التأويلات المحتملة أرجحها فمن تدبر القرآن في ضوء النظام فلا شك أنه لا يخطئ في فهم معانيه وذلك لأن النظام قد يبين له سمت الكلام وينفي عنه تشاكس المعاني ويرد الأمور إلى الوحدة ويسد أبواب الدخول فيه للأهواء حتى يجبره ألا يأخذ إلا بصحيح التأويل ولا يعتمد إلا عليه وهو أعظم مطلوب.
ويقول الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم) :