ولذلك لما تحيروا من عظمة بلاغة القرآن وقوة بيانه لم يجدوا ما ينسبونه إليه إلا الشعر أو السحر فمرة قالوا: "هذا سحر"، ومرة قالوا: "هذا شعر".
وهذا منهم دليل على إعظامهم لشأن الشعر.. وقد رد الله عليهم بقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ, وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (1) .
إلا أن الشعر تميز بأن أساسه التأثير بواسطة التخييلات البيانية من تشبيه واستعارة وكناية ونحو ذلك.. ولما كان الخيال صورة من صور الكذب قيل إن أعذب الشعر أكذبه. ولكن ليس ذلك على إطلاقه، فإن العمدة في حسن الشعر وجودته على صدق الشعور وجمال التعبير.. وكم من أبيات اعتبرت من عيون الشعر بينما هي لا تعتمد على أي صورة كاذبة، وإنما تتجلى بلاغتها في حسن إصابتها للمعنى الصحيح وحسن صياغتها في تعبير جميل.. ولعل حسان رضي الله عنه كان يعني هذا الميزان حينما قال:
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وإن أشعر بيت أنت قائله
إلا أن الذي غلب على الشعراء المبالغة في الصور البيانية إلى حد التخييل الكاذب الصريح.. وخاصة في مقاصد الوصف والمدح والهجاء، فتسابقوا إلى الإغراب في ذلك وإلى ابتداع المعاني الموغلة في الاستحالة، زاعمين أنه بذلك يحلو الشعر ويستعذب.. فمن قائل:
عقيقاً فصار الكل في جيدها عقدا
بكت لؤلؤاً رطباً فسالت مدامعي
وقائل:
وقدت لرجل البين نعلين من خدي
وجذت رقاب الوصل أسياف هجرها
وقائل:
منك يشكو ويصيح
بح صوت المال مما
وقائل:
صليل البيض تقرع بالذكور
فلولا الريح أسمع من بحجر
ولعمري لو كان هذا الميزان صحيحاً إذاً لكان أكثر حسناً وعذوبة في الشعر قول أبي نواس:
لتخافك النطف التي لم تخلق
وأخفت أهل الشرك حتى أنه
أو قول المتنبي:
من فيه أحلى من التوحيد
يترشفن من فمي رشفات
أو قول جرير:
على خبث الحديد إذا لذابا
ولو وضعت فقاح بني نمير