إن المستوفي دراسة عصر الزركشي يتبين له أن تلك الأحداث الجسام التي اكتنفت حياة الزركشي سابقاً ولاحقاً، لم تكن صعوباتها ومخاوفها تثنى عزم هذا الرجل الفذ عن شق طريقه في الحياة مختاراَ- بعد توفيق الله - أسلم السبل وأشقها في نفس الوقت فانقطاعه إلى العلم، وملازمة العلماء دليل قاطع على قوة شخصيته، وعدم تأثرها بالأحداث الجوفاء فتحصيل العلم هو السلاح الواقي من التردي في المهالك، وهو الأساس الذي تبني عليه الأمم دولها وقوتها وحضارتها، هذا جانب من شخصية الزركشي قد يستشفه الباحث بعد إمعان النظر.

الجانب الثاني أن الإِمام الزركشي وإن وصف بالعزلة عنِ الناس والزهد في الدنيا والاشتغال بالتصنيف فإنه لم يكن غافلاً عن مجتمعه فقد كان محاربا للأعداء بقلمه السيال، فقد كتب في جانب العقيدة حول الركن الأول من أركان الإسلام، وفي هذا محاربة للوثنية والإلحاد، وصد للزندقة، وصنف في تحريم الحشيش الذي تفشى في المجتمع بصورة مذهلة. ودرس في خانقاه كريم الدين وأفتى.

ومن هنا يلمس الباحث عناية الزركشي بمجتمعه الطبقة العامة من الناس وطبقة العلماء المصنفين، فطبقة العامة أخذت قدراً من تفكير هذا الإمام لدراسة المشكلة وتحديد الحكم الشرعي فيها وذلك الحكم هو في نظر الزركثي الحل الوحيد، والعلاج الناجع المفيد لأدواء المجتمع لاسيما أنه قد بدأ الاشتغال بهذا المجال في سن مبكر [44] . أما طبقة العلماء فكان ملازماً للشيوخ [45] منهم، متتبعاً مؤلفات السابقين عليه، فأفاد من علم شيوخه، ودَرسَ التصانيف، فاستدرك، وشرح، وعلق، وصوب ما رآه خطأ، فكانت حياته خدمة جلى بين أخذ من منابع العلم، وإفاضة من غزير الفوائد مع تتبع للنكت والفرائد. ولعل من الأسباب الدافعة لهذا المنهج غاية الحرص على الخير والبعد عن مخاطر السلطان، ومهالك المجتمع، وقد بسط القول في دراسة عصره الشيخ علي محي الدين علي أثابه الله [46] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015