لقد بلغ تسامح المسلمين مبلغاً لم يمر ولن يمر من غيرهم في تاريخ البشرية فلم يضيقوا على المخالفين [44] فيما يعتقدون حتى فيما اعتقده المسلمون حراما، فسمحوا للنصارى بالخمر والخنزير- قال الشافعي أحد الفقهاء:
"علينا أن نمنع أهل الذمة إذا كانوا معنا في الدار وأموالهم التي يحل لهم أن يتموّلوها مما نمنع منه أنفسنا وأموالنا من عدوهم إن أرادهم، أو ظلم ظالم لهم، وأن نستنقذهم من عدوهم لو أصابهم، وأموالهم التي يحل لهم، فإذا قدرنا استنقذناهم وما حل لهم ملكه ولم نأخذ لهم خمراً ولا خنزيرا" [45] .
وعلى من يريد التلاعب بالألفاظ أن يدرك أن الإسلام هو سنة الله في الكون، والفطرة التي فطر الناس عليها، أما أن الإسلام يتغير بتغير الزمان والمكان فإنه براء من ذلك- فالإسلام لا ينحني لا لزمان ولا لمكان، فالزمان والمكان يخضعان للإسلام ولا يخضع لهما- هو طراز خاص في الحياة متميز عن غيره من خالق الزمان والمكان يعالج ما يجدّ من أمور من خلال الخطوط العريضة التي جاء بها كتاب الله وجاءت بها سنة رسول الله، وهي معانٍ عامة تعالج جميع مشاكل الإنسان في الحياة في كل زمان ومكان، يستنبط منها كل مسألة إنسانية بحيث تجعل العلاج في مستنداً إلى قاعدة متينة تندرج تحتها جميع الأفكار عن الحياة، وتكون مقياسا تبُنى عليه جميع الأمور الفرعية، وكل المعالجات والمعاني منبثقة من عقيدة التوحيد، مستنبطة من خطوط الشريعة العريضة. وقد حدد الإسلام للإنسان القواعد الأساسية ولكنه لم يحدّ عقله بل أطلقه، وقيد سلوكه في الحياة بوجهات نظر معينة، فجاءت نظرة المسلم للحياة الدنيا نظرة أمل باسم وجدّية واقعية، كما جاءت نظرة تقدير لها مفصلة على قدرها من حيث أن يجب أن تنال ومن حيث أنها ليست غاية، يبتغى بها وجه الله والدار الآخرة التي هي دار البقاء والخلود.