ثم إن هؤلاء المانعين للعمل بالقرائن إذا كانوا قد عاشوا في مجتمعات سليمة غلب على الناس فيها الأمانة والصدق والورع، مما جعلهم يتورعون إلى هذا الحد ويوجبون على القاضي ألا يتعدّى في أدلته على المذكور، فإنّ أعراف اليوم قد تغيَّرت تماما، وتعقّد أسلوب الحياة، ومع هذا التعقيد انعدم الضمير والوازع، وانتشر الفساد وضرب أطنابه، وتكونت للسلب والنهب والسطو عصابات وجمعيات ليس في البلد الواحد فحسب بل أصبحت لها شبكات وفروع عالمية، وانتشرت دعاوى التزوير والغش، وسهل التعدي على النفس والعرض والمال، وكل ذلك يتم وقلّ أن يكون في حادثة منها شاهد عيان واحد، أو إقرار ممن قام بها، وليس هناك من الوازع الديني أو الأخلاقي ما يجعل المتهم يقر بحق عليه أو جريمة ارتكبها، ولو تركناه لليمين لحلفها وحلف عليها ألفاً أنه ما فعل ولا أخذ, فلو قصرنا الإثبات على الأدلة المذكورة لما ثبتت جريمة ولا استخلص حق. ولعمري أن رجال هذا المذهب -مع قلتهم بالنسبة للقائلين بالقرائن- لو وقعت عليهم مثل ما يقع اليوم من الحوادث والقضايا، أو لو أنهم عاشوا حتى رأوا ما نرى لما توقفوا في الإفتاء بما يوافق متطلبات هذه الحوادث والمنازعات، خصوصا وقد عرف منهم حرصهم الشديد على إقامة الحق والعدل.
ثم إنه مع هذا التقدم العلمي الذي يشهده عالم اليوم أمكن التوصل إلى قرائن قوية تبين الحق وتعين على فهم الدعوى كالتحليلات المعملية من فحص للدم وغيره ومطابقة بصمات الأصابع ومضاهاة الخطوط وغير ذلك. فإننا إذا أهملنا هذه القرائن وألقينا بها في البحر بحجة ما يتطرق إليها من الاحتمال لعرضنا الشريعة الإسلامية لتهمة الجمود وعدم مسايرة العصر، وهذا ما لم يقله إلا المكابر، فهي شريعة كل وقت وقانون كل جيل، وما هذه الفتاوى المأخوذة من أصولها المعروفة إلا دليل مرونتها وقابليتها لحكم الأجيال المتعاقبة.