تبين مما سبق أن الحديث الذي استدل به من رفض القرينة اختلفت فيه أقوال الرواة فظهر الاضطراب في متنه، ومع ذلك ففيه الدلالة على تحكيم القرائن. وكذلك الأثر المروي عن علي- رضي الله عنه- وأعوانه فيه اتهام بنقصان الرواية حيث لم تبين كل ظروف القضية المطروحة، ومع ذلك فمن رأيي أن القرائن في هذا الأثر مع أنها دلت على خلاف الواقع إلا أن فيه دلالة على إعمالها أيضا، فالمتهم الأول بالرغم من أنه لم يرتكب الجريمة إلا أنه علم أنه لا يستطيع دحض القرائن الظاهرة فآثر الاعتراف بما لم يجنه. ونفس هذه القرائن هي التي جعلت عسكر علي -رضي الله عنه- يلقون القبض على المتهم, ولو لم تكن القرائن دليلا في الدعوى لما قبضوه ولما ذكروا أنه القاتل, وإلا كيف يكون الحال إذا وجدنا رجلا مذبوحا وإلى جواره آخر يحمل سكينا مضرجة بالدماء ثم نتركه لاحتمال أن يكون القاتل غيره، فإن صح وجود قاتل غيره كما في هذا الأثر فإنه في حكم النادر.

ففي اعتقادي أنه لا خلاف في أن القرائن لا تخلو من بعض الاحتمالات التي توهن اعتبارها وتضعفها كدليل، ولكن يمكن القول بأن هذه الاحتمالات -كما تدخل في القرينة- قد تدخل في غيرها من طرق الإثبات, فالبينة قد يتطرق إليها كذب الشهود أو نسيانهم، والإقرار قد يدخل الغرض وتحقيق مصلحة ذاتية، ومع ذلك لم يلغ الشارع الحكيم اعتبارهما واعتمادهما كأدلة للإثبات لتوهم هذه الاحتمالات، فالشريعة لها الظاهر والله يتولى السرائر. فإذا كان الاحتمال قد يدخل في أقوى الحجج الشرعية، فليس هو بحجة يمنع بها اعتبار القرائن، وكما يكون هناك ضحايا في القرائن في مثل هذه الاحتمالات، فلا تخلو الأدلة الأخرى أيضا من ضحايا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015