ويقول ابن العربي المالكي: "إذا ثبت أن التوهّم والتفرّس من مدارك المعاني، ومعالم المؤمنين، فإن ذلك لا يترتب عليه حكم، ولا يؤخذ به موسوم ولا متفرس، فإن مدارك الأحكام معلومة شرعاً، مدركة قطعاً، وليست الفراسة منها" [17] .
وجاء في تبصرة الحكّام لابن فرحون قوله: "والحكم بالفراسة مثل الحكم بالظن والحرز والتخمين، وذلك فسق وجور من الحكم، والظن يخطئ ويصيب" [18] ، ثم بيّن الشاطبي في كتابه الموافقات: أن الفراسة لا تصلح مستنداً للقاضي في حكمه لأن الاعتبارات الغيبية لا دخل لها في بناء الأحكام القضائية، فالرسول صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم المتفرِّسين - لم يعتبرها دليلا يعتمد عليه فقال: "إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها". فقيّد الحكم بمقتضى ما يسمع وترك ما وراء ذلك" [19] .
كما أن صاحب (معين الحكام) الحنفي قد ذكر من القول في منع الحكم بالفراسة مثل ما قدمناه عن صاحب تبصرة الحكام، وأن الحكم بها حكم بالظن والتخمين [20] .
رأي ابن القيم:
خالف ابن القيم جمهور الفقهاء وذهب إلى القول بجواز الحكم بالفراسة وقال إنها مدرك صحيح للأحكام، واستخراج الحقوق وفصل الدعاوى، ومن قوله في ذلك: "ولم يزل حذّاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لم يقدّموا عليها شهادة ولا إقراراً" [21] .
وهو في ذلك يرى أنّ الفراسة من القرائن، ويفسِّرها بالعلامة، ويظهر ذلك من فحوى اعتراضه على تفرقة أبي الوفاء بن عقيل- أحد فقهاء الحنابلة - بين الفراسة والأمارات. قال: "وسئل أبو الوفاء بن عقيل عن هذه المسألة - أي مسألة الحكم بالقرينة والأمارات - فقال: "إن الحكم بالقرينة ليس من باب الحكم بالفراسة التي تختفي فيها خطوات الاستنتاج".