ولقد أحب النبي صلى الله عليه وسلم مكة حبا شديدا، وقد آلمه تركها، وحز في نفسه أن يخرجه قومه منها، فلما خرج من مكة وقف على الحزورة وقال: "إني أعلم أنكِ أحبّ البلاد إليّ، وإنك أحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت".
ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على جمرة العقبة، وقال: "والله إنك لخير أرض الله، وإنك لأحب أرض الله إليّ، ولو لم أُخرَج ما خرجت؛ إنها لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد كان بعدي، مسلم حلت لي إلا ساعة من نهار ثم هي حرام".
وتكريم الله لهذه البقعة واختياره لها، وجعلها مكانا لحرمه، ليس له علة الظاهرية إلا ما ذكرنا.
فماذا في مكة من جمال الأنهار، وكثرة المياه، وحسن الزرع والخضرة، وطيب الهواء، واعتدال الجو، وكثرة الخير؟ لم يكن فيها شيء من ذلك!.
إنها بلد يقع في واد غير ذي زرع، لا تنساب فيه مياه، ولا تكتنفه الحدائق، ولا تقوم فيه صناعات، تحيط به الجبال، شديد الحرارة؛ تصل أحيانا لدرجة اللهيب.
ويشتد العجب بالإنسان، ويملؤه الأسى والحزن إذا عرف أن كفار مكة كانوا يعذبون من أسلم من عبيدهم من أمثال بلال بن رباح بوضعهم في وقت الظهيرة على رمضاء مكة، فكأنها نار السعير؛ إذ كان أمية بن خلف يطرح بلالا على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره.
وقال القزويني في مكة:
(وهي مدينة في واد، والجبال مشرفة عليها من جوانبها، وبناؤها حجارة سوداء ملس وبيض أيضا، وهي طبقات مبيّضة نظيفة، حارة في الصيف جدا، إلا أن ليلها طيب، وعرضها سعة الوادي، وماؤها من السماء ليس بها نهر، وليس بجميع مكة شجر مثمر، فإذا جزت الحرم فهناك عيون وآبار ومزارع ونخيل، وميراتها تحمل إليها من غيرها، استجابة لدعاء الخليل عليه السلام) [4] .