فقال له مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فتعقد له على الناس، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيك.
قال عمرو: ومن ذلك؟
قال مسلمة: عبادة بن الصامت.
فدعا عمرو عبادة، فأتاه وهو راكب على فرسه، فلما دنا منه أراد النزول، فقال له عمرو: عزمت عليك إن نزلت، ناولني سنان رمحك، فناوله إياه، فنزع عمرو عمامته عن رأسه، وعقد له، وولاه قتال الروم [30] .
وجمع عمرو المسلمين وقرأ عليهم كتاب الخليفة ودعا الأربعة الذين أخبره عمر أنهم مقام أربعة آلاف، فقدمهم أمام الناس، وأمر الجميع بأن يتطهروا، ويصلوا ركعتين ثم يرغبوا إلى الله- عز وجل- ويسألوه النصر، ففعلوا [31] .
وقاد عبادة المسلمين، ودار قتال عنيف بين الطائفتين انتهى بفتح الإسكندرية وهزيمة الروم في اليوم الذي تولى فيه عبادة أمر القتال.
لا شك أن هزيمة الروم في الإسكندرية كانت آية من آيات الله أظهرها على يد أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإلا فكيف يستطيع المسلمون اقتحام تلك الأسوار، وتخطي هذه الحصون، والتغلب على المتحصنين؟ إن المجانيق لا تنال منها أي منال، وإن ما يملك المسلمون من السهام والنبال لا تغني عن أصحابها شيئا أمام تلك الرواسي الشامخات، ولقد شاء الله – تبارك وتعالى – أن يموت هرقل في تلك اللحظات الحرجة، وأن يضطرب البلاط اضطراباً يعطل تفكير العاملين فيه حتى إنهم لا يفكرون إلا في أنفسهم، وما سيئول إليه أمرهم، فأين الإسكندرية من هذا التفكير؟ وماذا تكون حاميتها في معمعة تلك العواصف الهوج؟ فلتذهب الإسكندرية مع الريح، ولتمت حاميتها فليست عندهم أعز من أنفسهم.
أفيظن أحد والبلاط يغلى غليان القدر، والمؤامرات تحاك في ظلام سراديبه، وذوو الرأي فيه يفكرون في مصيرهم، أفيظن أحد والحالة هذه أن تمد الإسكندرية بشيء من المدد مهما قل عدده، أو خف حمله وبخس ثمنه؟؟.