ولم تكن هذه التحصينات الطبيعية لتحول بين عمرو وبين ما عزم عليه من فتح الإسكندرية، فقد كان يرى أن انتصارات المسلمين المتوالية أكبر مشجع للمسلمين على اقتحام تلك الموانع، وتذليل هذه العقبات، كما كان يحس بفراسته أن هزيمة الروم في كريون لا بد أن تكون قد تركت في قلوب المحاربين من الهلع والفزع ما يجعلهم ينهارون لأول وهلة من الهجوم الذي يشنه المسلمون، لهذا كله أمر عمرو بالهجوم على المدينة، واقتحام أسوارها المكينة.
ولكن الروم كانوا قد أعدوا للأمر عدته، وكأنهم كانوا يتوقعون هجوم المسلمين على مواقعهم فنصبوا المجانيق فوق الأسوار، ولم يكد المسلمون يقتربون منها حتى سقط عليهم وابل من الحجارة الضخمة التي ألقتها المجانيق على صفوف المهاجمين، فأوقعت فيهم إصابات خطيرة وعلى الفور أمر القائد بالتراجع إلى ما وراء مرمى المجانيق.
وتراجع المسلمون إلى جهة الشرق، وهناك ضربوا معسكرهم ما بين حلوة إلى قصر فاروس [15] ، وكان هذا القصر قلعة بناها الفرس عندما حاصروا الإسكندرية، وأخذ رؤساء القبط الذين صحبوا المسلمين يمدونهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والعلوفة [16] .
وأقام عمرو في هذا المكان شهرين [17] ، راجيا أن يخرج له الروم في معركة مكشوفة، حتى يستطيع منازلتهم والإيقاع بهم، ولكن أحدا لم يخرج إليه، بل لم يجرؤ جند الروم على مغادرة حصونهم.
وانتقل المسلمون من مكانهم الذي اختاروه، وضربوا فيه معسكرهم إلى مكان آخر يسمى المقس حيث لا جدوى من المقام بمكان لا يستطيع المسلمون فيه الإلتقاء بعدوهم والدخول معه في معركة فاصلة، وكان هناك أمر آخر ينبغي على القائد مراعاته ذلكم هو ما يصيب الجنود من الملل والكسل حين يطول بهم الوقوف دون أن يدخلوا في معركة، أو ينشطوا في عمل جاد.