وفي سير شعراء الجاهلية ما يقدم لنا دليلا على أن الذين أولعوا بها واشتهروا بها بين قومهم وذويهم كانوا يدمنونها في مرحلة من مراحل طيش الشباب، وعرامة الفتوة، ألهاهم الغنى والترف عن التعلق بمعالي الأمور، وعن الانشغال بجلائل الأعمال، ففي حياة امرئ القيس لمحات دالة على أن انغماسه في اللذات وانهماكه في اللهو والشراب كان في الفترة الأولى من حياته وقد طرده أبوه حجر الكندي الذي كان ملكا على بني أسد، وبلغه مقتل أبيه وهو في مجلس شرابه، وقال قولته المشهورة التي صارت مثلاً: ضيعني صغيرا، وحملني دمه كبيراً اليوم خمرٌ، وغداً أمرٌ، لا صحو اليوم، ولا سكر غداً ". وكان ذلك الحادث فاصلاً بين عهدين وحداً بين مرحلتين في حياته.
وقد مدح زهير بن أبي سلمى حصن بن حذيفة الفزاري، فكان مما امتدح من فضائله أنه لا يشرب الخمر، ولا يهلك فيها ماله وإنما يذهب بماله كثرة عطاياه للمحتاجين، وذلك حيث يقول:
أخي ثقة لا تهلك الخمرُ مالهُ
ولكنه قد يهلك المال نائله [2]
من حرموا الخمر في الجاهلية:
وحرصت أمهات كتب الأدب العربي [3] على أن تفرد أبواباً وفصولاً تذكر فيها من حرموا الخمر في الجاهلية تكرماً وصيانة لأنفسهم، وتورد قصصهم وأشعارهم التي تصور ذهابها للعقل والمال، وزرايتها بمروءة ذوي المروءة، وذهابها بالنخوة والنجدة.
وممن اشتهروا بتحريم الخمر في الجاهلية عامر بن الظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن بكر بن عدوان، ومن شعره في ذم الخمر وبيان ضررها على العقل والمال، وتحريمها على نفسه ما دام حياً قوله:
سآلة للفتى ما ليس في يده
ذهابة بعقول القوم والمال
أقسمت بالله أسقيها وأشربها
حتى يُفرَّق تربُ القبر أوصال
مورثة القوم أضغانا بلا إحن
مُزْرِيةٌ بالفتى ذي النجدة الحالي [4]