بما خبرتنا من قول قس
من الرهبان أكره أن يعوجا
والمراد بالقس هو ذلك الراهب الذي سبقت إشارته إلى نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) لمجرد جلوسه تحت الشجرة ... وهو بيت غريب عن السياق غرابة خبر الراهب هذا، ويكاد ينطق بأنه مدسوس على القصيدة دسا، سواء من حيث صياغته أو مضمونه أو بعض مفرداته، ففي (يعوجا) محاولة لقصر اللفظ على أن يكون قافية في منظومة لا قرابة بينه وبينها البتة، فضلا عن ضياع موضع الربط بين (بما) ومتعلقها أهو (الهم) أم (النشيج) أم (الانتظار) أم (الخروج) ! ولكي تتضح لك غربة هذا البيت أكثر فما عليك إلا أن تحذفه من خيالك ثم تقرأ بدله البيت الخامس مباشرة:
بأن محمدا سيسود فينا
ويخصم من يكون له لجيجا
فأحق مكان بتعليق المصدر المجرور أول هذا البيت (بأن ... ) هو (وصف) في صدر البيت الثاني، وهكذا تستكمل الدارة الفكرية تلاقيها، فينسجم مضمون الأبيات في مجرى واحد لا عوج فيه ولا أمت ... فنشعر أن الباعث النفسي لصياغة القصيدة هو ما قصته خديجة على ورقة من أمر الوحي، وما سمعه عقيب ذلك من الرسول نفسه عن ملابساته، وكل ما قيل عن علاقتها بغير هذه المناسبة فهو ادعاء ينقصه الدليل المعقول.
ولقد آن لنا بعد هذه الرحلة الطويلة أن نعود إلى منطلق البحث، وهو موقف الأخ الكريم الأستاذ على الطنطاوي وآخرين مثله من موضوع البشائر عن مبعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) السابقة لظهوره.
فأما جانب الصواب في إنكار هؤلاء الفضائل فقد أوضحناه مؤيدا بكل ما نملك من الحجج والبيانات، وقد بقى أن نقف بعض الكلام على الجانب الآخر، جانب المبشرات الثابتة بأقوى ما يهتدي إليه العقل والقلب من وسائل الإثبات.