وإنما كان ذلك سنة لأن الأنبياء عليهم السلام هم أكمل الخلق وشرعهم أقوم الشرائع، وقد أمرنا بالاقتداء بهم، وما شرع الله شيئا إلا وفيه الخير والمصلحة وإن خفى ذلك علينا. والصادق في إيمانه يستجيب لأمر الله لأن مقتضى الإيمان التصديق والطاعة والاستسلام والانقياد لأمر الله تعالى. وإن كانت معرفة الحكمة تزيده تصديقاً وثباتاً وانقياداً.. ويمكننا أن نفهم شيئا من الحكمة في الأخذ من الشارب، فالمشركون والمجوس الذين كفروا بالله وعبدوا غيره وأضلهم الشيطان عن فطرتهم كانوا يتركون شواربهم لا يأخذون منها شيئًا، وذلك أمارة على ما في أنفسهم من غلظة وتجبر وتعالٍ، ومن زهو وعجب واختيال، وشأن المؤمن التواضع والانكسار والتذلل لله عز وجل. ونحن مأمورون بمخالفة الكفار في هيئاتهم وأفعالهم غير المشروعة، فهم أعداء لله ولرسوله وللمؤمنين، ومن تشبه بقوم فهو منهم. ولذلك أمرنا بقصه أو حلقه، إذ في ذلك من النظافة ما لا يخفى، فإن الإنسان إذا أكل أو شرب وكان شاربه طويلا عاقه عن أكله وشربه إذ يدخل الشعر في فمه ويختلط بطعامه وشرابه وفي ذلك إيذاء للإنسان، وقد يؤدي به الامتناع عنهما مع حاجته إليهما لضيق الصدر وتألم النفس بدخوله في الفم، وقد يؤدي به ذلك إلى مضغه وبلعه دون قصد. وكثيراً ما يتعلق به شيء من الطعام والشراب وذلك أمر مستقذر مستهجن، وفيه إهانة وإزراء بالرجل، وفي حلقه أو قصه أمان من ذلك، وإذا كان الشارب طويلا ثم تمخط الإنسان تعلق به شيء منه وهو لا يشعر، وقد يُرى بين الناس وهو كذلك فيكون مُزدرى مَهيناً ينفر الناس منه، ولما كان تركه ليس من الفطرة فإن النفس تشعر معه بضيق وثقل وأذىً حتى تستريح بالأخذ منه. وفي تركه تقبيح للهيئة، وفي الأخذ منه إصلاح وتحسين لها. وفيه كذلك إحسان إلى الناس بكف الأذى عنهم، وإحسان إلى النفس بالمحافظة على المروءة، وبالدعوة إلى التآلف.. قال ابن العربي: إن الماء النازل من الأنف يتلبد به الشعر