وفي الجملة الأخيرة ألبس كلامه ثوب الكناية، وذلك في قوله: "من سوق الشهوات إلى سوق الشبهات"؛ لأنه جعل ما ساقه من هذه المقامات كأنه شهوة اشتهى عملها ثم اشتبه عليه الأمر هل في ذلك رضى الله أم فيه سخطه؛ فكأنه ساق شهوة إلى سوق يجهل التبايع فيها، فلا يدري ما سيكون، فلعله خاسر الصفقة فيها، وهذا لا يخفى عليك ذلك التشبيه الضمني الذي يفهم من تمثيل سوق المقامات إلى سوق الشبهات.
فهكذا تمر هذه الألوان في مقدمة هذا الكتاب؛ فتجد اقتباسا آخر عند قوله: "حتى نأمن حصائد الألسنة ونكفى غوائل الزخرفة.. وأنلنا هذه البغية ولا تضحنا عن ظلك السابغ، ولا تجعلنا مضغة للماضغ.."، فهو يشير بقوله: "حصائد الألسنة"إلى حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.. قال: قلت: يا رسول الله: إنا لنؤاخذ بما نتكلم؟ فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، هل يكب الناس في النار على رؤوسهم إلا حصائد ألسنتهم؟ ".
كما أشار بقوله: "ولا تجعلنا مضغة للماضغ"إلى قوله صلى الله عليه وسلم: " لما عرج بي مررت بأقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم، وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" [6] .
ومنها وصفه لسفينة: "فاتفق أن ندبوا في بعض الأوقات لاستقراء مزارع الرزداقات؛ فاختاروا من الجواري المنشآت جارية حالكة الشيات تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب" [7] ، يشير هنا إلى الآية الكريمة: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب} [8] .
هذا وقد يأتي بالاقتباس خفيا وبصورة لطيفة، مثل قوله في غلامه في المقامة السادسة والأربعين: "بورك فيك يا طلا، كما بورك في لا ولا"؛ كناية عن شجرة الزيتون المذكورة في قوله تعالى: {..وقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [9] .