ومن المعلوم أن الإنسان بفطرته يحب ما نشأ فيه وشب عليه، وليس من السهل على نفسه أن يتركه إلا إذا حصل على ما هو خير منه؛ إنه يتشبث به لأنه ماضيه الذي يرجع إليه، وحاضره الذي يعتز به.
وكلنا ندرك أن صاحب الكوخ المتداعى لا يسمح مطلقا بهدمه، وهو مستعد للدفاع عنه بنفسه؛ لأن الكوخ الحقير عنده أفضل من سكنى العراء.
وكلنا يوقن أننا لو بنينا لصاحب هذا الكوخ قصرا منيفا، أو بيتا نظيفا وراودناه على ترك هذا الكوخ ليسكن هذا البيت لاستجاب للدعوة، وقد يتردد في بادئ الأمر لصعوبة فراق ما ألفه، ووحشة النفس من الجديد، ولكن تردده لا يلبث أن يتبدد حينما يذكر حاله في هذا الكوخ، وما كان يدهمه فيه من الحشرات والهوام، وحين يمني نفسه بما ينظره من السعادة والهناء في القصر الجديد، بل إنه ليتأكد من سعادة نفسه وطمأنينة قلبه وهناء باله يقارن بين المنزلين: كوخه المتداعى وقصره المشيد.
إن الدعاة الذين يهدمون قبل أن يبنوا كهؤلاء الذين يهدمون الكوخ ويتركون صاحبه في العراء ولو لفترة قصيرة حتى يشيدوا له البناء، فهم حينئذ ينفرون ولا يبشرون، ويضيقون ولا ييسرون، أما الذين يقيمون البنايات مع وجود الأكواخ، ويشيدون القصور إلى جانب القبور، فهؤلاء يعطون فرصة المقارنة والاختيار، ويتيحون للعقول حرية التأمل والانتقاء، ولن تكون النتيجة إلا الرضا بالأحسن، والإقبال على ما هو أفضل، وسيقوم ساكنو الأكواخ بعد ذلك يهدمونها بأيديهم.
ويجب على الدعاة بعد تشييد البناء ودعوة الناس إلى الانتقال إليه، هدم الأكواخ، وعدم التساهل في تحطيمها، فكثيرا ما تحن النفوس إلى ماضيها ولو كان ضلالا، وكثيرا ما تعود إلى سالفها ولو كان فسادا.
وإن وجود هذه الأكواخ مما يذكر النفوس بماضيها، ويعود بها إلى سالفها؛ فتحن له وتتمنى العودة إليه.