وركز جعفر على إبراز التوحيد؛ لأنه أساس العقيدة التي جاء الإسلام لينشرها في العالمين، ولأن أي دين لا يقوم على أساسها فهو باطل لا يغني عن صاحبه شيئا، ثم التفت جعفر إلى النجاشي وكأنه يريد أن يستعديه على هؤلاء الذين يلاحقونهم؛ فقال: فلما صدقنا النبي وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، ولم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، عدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان؛ فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك! [51] .
واشتاق النجاشي بعد هذا الحديث الطلي عن الدين الجديد لأن يسمع شيئا من الوحي الذي أنزل على نبي هذا الدين، فقال لجعفر:
هل معك مما جاء به عن الله شيء؟.
فقال جعفر: نعم.
فقال النجاشي: فاقرأه علي!
فقرأ جعفر {كهيعص} صدرا من سورة مريم.
فلما سمعه النجاشي بكى وبكت أساقفته، ثم قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.
ونظر النجاشي إلى عمرو وصاحبه، وطردهما من مجلسه، وأمر برد ما حملا إليه من الهدايا، وقال: انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون.
وحز في نفس عمرو أن يطرد من مجلس الملك هذه الطردة، وكبر عليه أن يعود بهذه النتيجة المؤسفة، وكيف يرجع إلى قومه دون أن يحقق لهم ما أرادوا وهم لم يختاروه إلا لإيمانهم بأنه الشخصية العبقرية القادرة على تحقيق تلك المكيدة، إن عودة عمرو دون أن يكون معه المهاجرون من المسلمين خيبة أمل في دهائه، وحكم بالفشل على عبقريته، وقضاء على منزلته بين قومه.
وفكر عمرو كثيرا في الأمر، وهداه تفكيره إلى مكيدة لم يجربها بعد، فعزم على تنفيذها، وقال: والله لآتينهم غدا بما استأصل به خضراءهم [52] .