يعرف لنفسه قدرها. ولم تخل الحروب الشديدة التي وقعت له مع الأعراب من مشاهد قسوة ولكنها لم تخل كذلك من دلائل رحمة وكرم وغفران. وكان محمد لا يعتذر من الأولى ولا يفتخر بالثانية. إذ كان يراها من وحي وجدانه وأوامر شعوره ولم يكن وجدانه لديه بالمتهم ولا شعوره بالظنين. وكان رجلاً ماضي العزم لا يؤخر عمل اليوم إلى غد. وطالما كان يذكر يوم تبوك إذ أبى رجاله السير إلى موطن القتال واحتجوا بأنه أو أن الحصيد وبالحر. فقال لهم: الحصيد! أنه لا يلبث إلا يوماً. فماذا تتزودون للآخرة؟ والحر؟ نعم إنه حر ولكن جهنم أشد حراً. وربما خرج بعض كلامه تهكماً وسخرية. إذ يقول للكفار ستجزون يوم القيامة عن أعمالكم ويوزن لكم الجزاء ثم لا تنجسون مثقال ذرة.
وما كان محمد بعابث قط ولا شاب شيئاً من قوله شائبة لعب ولهو. بل كان الأمر عنده أمر خسران وفلاح ومسألة فناء وبقاء. ولم يك منه إزاءها إلا الإخلاص الشديد والجد المر. فأما التلاعب بالأقوال والقضايا المنطقية والعبث بالحقائق فما كان من شأنه قط. وذلك عندي أفظع الجرائم إذ ليس هو إلا رقدة القلب ووسن العين عن الحق. وعيشة المرء في مظاهر كاذبة. وليس كل ما يستنكر من مثل هذا الإنسان هو أن جميع أقواله وأعماله أكاذيب بل أنه هو نفسه أكذوبة. وأرى خصلة المروءة والشرف - شعاع الله - متضائلاً في مثل ذلك الرجل مضطربا بين عوامل الحياة والموت. فهو رجل كاذب لا أنكر أنه مصقول اللسان مهذب حواشي. الكلام محترم في بعض الأزمان والأمكنة. لا تؤذيك بادرته لين المس رفيق الملمس كحمض الكربون تراه على لطفه سما نقيعاً. وموتاً ذريعاً.
وفي الإسلام خلة أراها من أشرف الخلال وأجلها وهي التسوية بين الناس. وهذا يدل على أصدق النظر وأصوب الرأي. فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الأرض. والناس في الإسلام سواء. والإسلام لا يكتفي بجعل الصدقة سنة محبوبة بل يجعلها فرضاً حتماً على كل مسلم. وقاعدة من قواعد الإسلام ثم يقدرها بالنسبة إلى ثروة الرجل. فتكون جزءاً من أربعين من الثروة. تعطى إلى الفقراء والمساكين والمنكوبين. جميل والله كل هذا. وما هو إلا صوت الإنسانية - صوت الرحمة والإخاء والمساواة يصيح من فؤاد ذلك الرجل - ابن القفار والصحراء.
وينكر البعض تغلب الحسية والمادية على جنة محمد وناره فأقول إن العيب في ذلك على