الشعر أبلغ من تأثير النثر. وأن النسيب والرثاء وما يجري مجراهما من فنون الشعر أبلغ تأثيراً من المدح والحكم. وأملك لاعنة القلوب. تأمل قول المجنون:
كأن القلب ليلة قيل يغدي ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت ... تعالجه وقد علق الجناح
إلى آخر الأبيات:
وقول جليلة بنت مرة ترثي زوجها كليباً حين قتله أخوها جساس:
يا قتيلاً قوض الدهر به ... سقف بيتي جميعاً من عل
هدم البيت الذي استحدثته ... وسعي في هدم بيتي الأول
مسني فقد كليب بلظي ... من ورائي ولظى مستقبلي
ليس من يبكي ليومين كمن ... إنما يبكي ليوم ينجلي
درك الثائر شافيه وفي ... درك ثأري ثكل المشكل
إلى آخر ما قالت. ثم انظر إلى قول الشماخ في المدح:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
أو قول زهير:
وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم ... مجالس قد يشقى بأحلامها الجهل
على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
وقل أي هذه الأبيات أشجى وأشد إثارة للنفس وتحريكاً للقلب؟
أأبيات زهير والشماخ. وهي من أحسن الشعر. وأجوده وأرصنه. أم شعر جليلة. وليست من طبقتهما ولا لهادقة معانيهما. وشرف أسلوبهما. وجودة حبكهما. أم أبيات المجنون. المستوحش في جنبات الحي منفرداً عارياً. لا يلبس الثوب إلا خرقة. ويهذي ويخطط في الأرض. ويلعب بالتراب والحجارة. وينفر من الناس. ويأنس بالوحش. أليس لبيتيه نوطة في القلب وعلوق بالنفس. لا تجدهما في أبيات الشماخ وزهير وهما من فحولة الشعراء المعدودين وزعماء القول المتقدمين.