الأرض.

ولقد نرى اليوم التوراة والأناجيل وما يقرؤها بلغتها الأصيلة إلا شرذمة قليلون من اليهود الذين يعيشون على أحلام الذاكرة. . . ونحوهم ولا ترين أن ذلك استبقاء فلولا أن الشذوذ لا يتخلف كأنه قاعدة مطردة ما قرأها منهم أحد. ثم استبدت الألسنة بهذه الكتب فلا هي شريعة ولا هي جنسية جامعة وإنما تراها في كل أمة من الأمة نفسها ولذا سهل على كثير منهم أن ينبذوها وصار أكثرهم لا يتدارسونها ولا يقرؤن فيها إلا إذا أرادو الاستغراق في رؤيا تاريخية والعارف من يستثبت فصولها ومعانيها.

وانظر كم ترى بين صنيع القبائل الجرمانية (الغوط) وبين صنيع العرب فإن أولئك أغاروا على ايطاليا في القرن الخامس للميلاد وانتقصوها من أطرافها ولم يكن إلا ملكوها حتى ملكتهم فإنهم تركوا أهلها وعادتهم من اللغة - وغير اللغة - ثم أخذوا يتحضرون من بداوة ويستأنسون إلى الحضارة الرومانية حتى رغبوا في العلم فاستجادوا المهرة من علماء الرومان ونصبوهم لوضع الكتب وتأليفها فوضعها لهم هؤلاء باللغة اللاتينية وهم قرؤها بها وأقروها عليها فذهبت غوطيتهم وذهبوا على أثرها وأدللت اللغة الرومانية لأهلها منهم فأخذتهم رجفة التاريخ فأصبحوا في الرومانية جاثمين كأن لم يغنوا فيها. فأقبل أنت على هذا المعنى حتى تحكم ما وراءه فلقد تركوها آية بينة.

وبعد فهذا الذي أمسكه القرآن الكريم من العربية لم يتهيأ في لغة من لغات الأرض ولن تتلاحق أسبابه في لغة بعد العربية. وهذه اللغة الجرمانية انشقت منها فروع كثيرة في زمن جاهليتها واستمرت ذاهبة كل مذهب وهي تثمر في كل أرض بلون من المنطق وجنس من التكلم حتى القرن السادس عشر للميلاد إذ تعلق الدين والسياسة معاً بفرع واحد من الفروع وهو الذي نقلت إليه التوراة فاهتز وربا وأورق من الكتب وأزهر من العقول وأثمر من القلوب وبعد أن صار لغة الدين صار دين التوحيد في تلك اللغات المتشابهة وبقيت هي معه إلى زيغ حتى صارت في ظله ثم ضحى بنوره فإذا هي في مستقرها من الماضي. وقد كان بسق من فروع الجرمانية فرعان الانكليزي والهولاندي وكلاهما استقل حتى ضرب في الأرض بجذر ثم أناف الانكليزي حتى صار ما عداه من ظله وهذا إلى فروع أخرى قد انشعبت من الأصل الجرماني كالاسوجي والاسليندي وغيرها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015