تقعدن مستكينا عاجزا ترنو إلى الماضي كما لو كان هو البناء المشيد. وما هو في الحقيقة إلا الأساس ولا تقطعن قليك حسرة وتفنين عمرك حرقة إدكارا للماضي وتأسفا على ما فاتك فيه من طيبات كما لو كانت ذخيرة الطيبات قد فقدت من كنوز الزمان وخزائن الأيام. فلتعلمن أن وعاء الطبيعة لا يزال أملأ ما يكون بالمناعم والمطايب. ولا تزال يدها أجود ما تكون بالعوارف والمواهب. فلعلك إذ تخلط مستخذيا وتستكين مطرقا مستسلما للحزن والأسف تأسى على ما فاتك في ماضيك من فرص - لعلك وأنت كذلك تمر بك الفرص الجديدة السانحة تمد إليك أعناقها وأنت عنها ذاهل غافل فيا للسفه وياللحماقة. أمن أجل اللجاجة في البكاء على لذة فائتة تضيع علة نفسك لذة آتية. ومن تماد في أساك على نعمة ضائعة تحرم نفسك حلاوة الفوز بنعمة مؤاتية.

ومن ابلغ الحكم الدالة على عبث التعلق بالماضي والتحرك على الفائت كلمة قرأتها ذات ليلة في بعض الأقاصيص الخرافية وها هي:

كان في العصور الغابرة فارس شجاع وبطل مقدام جلد على النوائب جرئ على الأهوال هجام على كل موطن ناب ومقام صعب ومأزق ضنك. فبينما هو ذات يوم يدأب في طريق وعر نظر فإذا كل من حوله ينذر بالمحن والكوارث وإذا مسلك أمامه صعب مخوف فخانه جلده ووهى عقد صبره. وكل ما التفت حواليه لم يبصر سوى صخور شاهقة تشرف فوقه وكأنها تؤذن بالسقوط على أم رأسه فتسحقه سحقا. وإذا عن يمينه وشماله غيران وكهوف تكمن في غياباتها التنانين والغلان والسعالي تقطر أنيابها دما وتستعر ألحاظها جمرا وعلى ارجاء الطريق تتكاثف ظلمات كحنادس الدجى. فلما أبصر البطل من ذلك ما آده وكربه. وتكآده وحزبه. آثر أن يقف سيره ثم يلتمس طريقا آخر أقل صعوبة وأيسر خطبا على جواده. ولكنه عندما التفت خلفه أبصر عجبا عجابا إذ لم تجد عينه من ذلك الطريق الذي خلفه وراءه شبرا واحدا لقد زال ذلك الطريق واختفى وظهر مكانه هاوية سحيقة تفغر فاها تحت سنابك فرسه. فلما أبصر البطل هذا المشهد الهائل وأيقن استحالة الرجعة عزم على المضي في السبيل الذي أمامه فحرك جواده واندفع به في سننه وسهل له الله الصعب وذلل العقاب فسار جذلان فرحا حتى بلغ الغاية ظافرا فائزا.

وكذلك ترى أنه لا رجعة للمرء فيما قد خلف وراءه من مراحل العمر ولا كرة له فيما قد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015