السحيق، والذي تنيره مصابيح النجوم السرمدية وتشرق من سقوفه أضواء الشمس الخالدة.

وأجل ما في التاريخ نهضاته فإن كل نهضة مهما كانت الفكرة التي قامت عليها ومهما كان نصيبها من الحق والجمال جديرة بالنظر وأعمال الروية لما يظهر فيها من نفائس النفس وكنوز الروح، فإن من شأن النهضات أنها ترفع الأستار عن حياة الشعب الداخلية فتظهر خصائصه ومزاياه في شكل أخاذ ورونق خلاب.

وإذا كان من أجل ما في التاريخ نهضاته وكانت كل نهضة أدبية كانت أو سياسية أو دينية تنما. برجل كبير يسمها بميسمه ويكون منها بمثابة محور الدوران فإنه يصح لنا أن نستخلص من ذلك أن العظماء هم عصارة التاريخ ولبابه وسره وجوهره، ومن يقلب الصحف المطوية في بطون التواريخ لا يمكنه مهما كان منكراً لعقيدة البطولة هادماً لمذهب الشخصيات التاريخية أن ينكر ما لهؤلاء الأفذاذ النوادر من خطارة الشأن في إقامة موازين الحضارات وتأثيل مجد الشعوب، وهم أشبه بالآلات الرافعة توجدهم الطبيعة عندما يسئمها سير التطور التدريجي لأحداث الطفرة فلا عجب إن هي حبتهم بتلك القوة العادية اللازمة لتلك الفعلة الكبيرة - وليس العامل الفرد في خلق أمثال هؤلاء الأفراد الظروف والوسط فإن رجالاً مثلهم لا ترفعهم الظروف وإنما هم الذين يرفعونها ولا يخلع عليهم الزمن أبراد المجد وإنما بهم تكتسي الأزمان جمالاً قشيباً وجلالاً مهيباً والوسط هو الذي يستمد من صادق وحيهم ويستنير يثواقب آرائهم ويستند على مواضي عزماتهم ويستقي من ينابيع قواتهم الروحية والأخلاقية، ومن الغبن والتوهين من أمر تلك الشخصيات الكبيرة أن نعتقد أنها من صنع الظروف وأنها جاءت محمولة على تيار النهضة.

وإنما سبب بطولة البطل ترتد إلى أسباب وراثية بعيدة الأعراق من فوق منال المفكر الاجتماعي لأن بارقات أفكاره لا تنير في غياهبها المتكاثفة ونافذات نظراته لا تتغلغل إلى أغوارها المتقاصية والبطل يحمل في دمه جرثومة عظمته وبين جوانحه سر بطولته وإنما فضيلة الظروف هي في أنها تجلو الحياة الداخلية وتهيئ له الفرص وتعد له المعدات وتفسح له المجالات والعظيم أشبه بالزهرة تستتم نموها وتتفتح كمائمها ويتفاوح أرجها إذا هي أصابت جواً صالحاً تتغذى منه عناصرها الكريمة.

من أولئك الرجال الذين تزخر في عروقهم دماء البطولة والذين يرسلهم القدر مزودين

طور بواسطة نورين ميديا © 2015