ذاته إلى القفص فأخذ فيه مجثمه كعادته ودأبه.

فالعادة هي الشكيمة التي تكبح جماح المجتمع الإنساني إذا همّ أن يعدو أطواره ويتجاوز حدوده. وهي التي تبقي كل امرئ في دائرته وقيوده. وتحمي أبناء النعمة والسعادة من ذوي الثروة واليسار من أن يثور بهم ويطغى عليهم حسادهم من الفقراء والوضعاء. وهي العادة ليس غيرها يمنع أوعر سبل الحياة وأصعب مسالك العيش وأمقتها وأخبثها وأفظعها من أن يهجرها أهلوها الذين خلقوا لها وخلقت لهم. فهي التي تهون على العدّان القيام في ظلمات المناجم والغواص في زمهرير العباب والنوتى في ثورة العواصف والفلاح في حقله المنقطع الفريد يقاسي لذعات الفقر خلال أشهر الثلوج. والعادة هي التي تحمينا من غزوات أهل الصحاري والمناطق المتجمدة. وهي تمنع الطبقات الاجتماعية المختلفة أن يختلط بعضها ببعض. وأنت إذا تأملت أرباب الحرف والصناعات المختلفة وجدت أن أحد هؤلاء متى بلغ الخامسة والعشرين من عمره أي بعد قضاء بضعة أعوام قليلة في حرفته لم يلبث أن تنطبع صحيفة شخصيته بطابع هذه الحرفة وترتسم عليها بل على سحنته وشمائله وصوته ولهجته سمات حرفيته وأماراتها ومميزاتها وخصائصها من أفكار وعقائد وآراء ومذاهب وأميال ومحاب ومكاره ثم لا يستطيع الرجل أن يتخلص من هذه إلا إذا استطاع وجهه أن يتخذ سحنة أخرى أو بشرته أن تتبدل صبغة جديدة.

إذا كانت المدة ما بين عشرين وثلاثين من العمر هي مدة تكوّن العادات الذهنية والفنية أي الحرفية (الخاصة بالحرفة التي يحترفها الإنسان) فإن المدة التي دون العشرين هي مدة تكون العادات الشخصية مثل كيفية نطق الألفاظ وحركات الإشارة والإيماء وأساليب المواجهة والخطاب وهلم جرا. ومن ثم ترى أن الرجل إذا تعلم لغة أجنبية بعد العشرين من عمره استحال عليه أن يبرئ لسانه فيها من اللكنة وكذلك الصبي الذي نشأ في بيئة سافلة ثم ارتفع بإحدى فلتات الحظ إلى مستوى طبقة عالية فعاشر أهلها من ذوي الفضل والعرفان أعواماً طوالاً - يتعذر عليه أن ينقي منطقه ويبرئ لفظه من تلك الخنة وما يجري مجراها من معايب النطق مما كان قد اكتسبه أثناء طفولته وشبيبته. وكذلك شأن هذا الإنسان فيما يتعلق بملابسه وأزيائه - فمهما غص جيبه بالدرهم والدينار كان من المتعذر عليه أن يحاكي في نظام الزي والهندام أهل الطبقة العالية العريقين فيها. فإن تجار الأنسجة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015