بالوحشة خالية من الأنس. فلو أني استطعت إذ ذاك أن أسلو حبيبتي وأنساها لنجوت وسلمت.
وكم من صب أضناه الهوى وأضواه الجوى لغدر الأليف وخيانة الحبيب فراح من كاس الغرام مقهوراً وفي لجة الهيام مغموراً، وفي غل الذلة والهوان مأسوراً. ثم كان عليّ أهون سبب شفاؤه، وبأيسر دية خلاصه وافتداؤه. ذلك لأن أمثال هؤلاء تأبى طباعهم الاستمرار على حب الغادرة الفاجرة والاسترسال في هوى الخافرة للعهد الخاترة.
هنيئاً لهؤلاء ما أوتوا من ثبات عزيمة، ونفاذ صريمة. لكن غير هذا شأن المحبين في التاسعة عشرة من العمر لا عزم ولا حزم - فهم أغرار أغمار يجهلون من أمور الدنيا وأحوالها كل شيء ويتطلبون من متاعها ولذتها كل شيء وأينما التفتوا - يساراً أو يميناً وخلفاً أو أماماً - تتراءى لهم عروس الدنيا في أبهى زخرف وأبهر زينة تناديهم وتستدعيهم، وتستميلهم وتستهويهم. وصوتها الفاتن الخلاب يلج إسماعهم في مهب كل ريح خاطرة. وشبحها الساحر الجذاب يطالع أبصارهم قي مدب كل لحظة باردة. فكل شيء شهوة خلوب، وكل شيء حلم كذوب. وإذا كان القلب فتياً فالحقيقة معدومة. كذلك خيال الشباب يتراءى له أن الحجر الأصم ينفطر وهمه عن الكنوز الذهبية. والسلمة الصلبة تنشق له عن أملح حورية.
ولو أن للعاشق في هذه السن الخيالية ألف ذراع لما خشى أن يفتحها جميعاً إذ ما عليه إلا أن يعتنق بها حبيبته حتى يجد كل ذلك الفراغ قد انسد.
في ذلك العهد لم أك أستطيع أن أتصور أن للإنسان في الحياة وظيفة سوى الحب وإنه يقدر أن يصنع شيئاً سوى أنه يحب. فإذا ذكر لي الناس صناعة أخرى حرت وبهت فلم أحر جواباً. وقد كان غرامي بحبيبتي غراماً وحشياً وكانت روحي تشعر من وقع هذا الغرام بمعنى شيطاني جهنمي. وسأضرب لك مثلاً يشراح هذا. وذلك أنها أعطتني يوماً صورة صغيرة لها فحملتها على قلبي شأن المحبين. فإني ذات يوم سائر في طرقات المدينة إذ رأيت في بعض حوانيت التحف والنوادر آلة التعذيب حديدية في طرفها صفيحة ذات أسنة وأبر فشددت الصورة إلى هذه الصفيحة ولبستها على جلدي فكانت الأسنة والإبر تنغرز في صدري لدي كل حركة فتحدث لي بذلك لذة كبرى حتى لقد كنت أحياناً أضغط بيدي على