الآن في سرد قصتك وقد طفت بنا قسماً من أوروبا فحدثنا الآن عن وطنك وأنت تعلم أني قد زرت فرنسا وإن شوابك المودة تصلني بها وإني لصديان النفس إلى نهلة من أخبار ذلك السلطان ذي الأبهة والجلال لويز الرابع عشر الذي قد تصرم عصره وانطوى زمانه وقد زرت مقصورته الفاخرة وإني لا أنظر الآن سوى بعين الذاكرة وإن الشيخ الفاني المتهدم وما يحوطه م الذكريات ليشبه شجرة هرمة من شجرات السنديان في غاباتنا فإن هذه الشجرة تعجز عن أن تتزين بأوراقها فهي تستر في بعض الأوقات صلعها بالنباتات الغريبة التي تترعرع حولها وتتشبث بهاوقد هدأ هذا الكلام ثائرة رنيه فعاد إلى سرد حوادث حياته قال:
إني لآسف إذ ليس في وسعي أن أذكر الزمن من الأفيح والعهد الزاهر وإني لم أنظر سوى تصرمه في أبان طفولتي وقد كان عهده زال وزمانه مضى لما عدت إلى وطني ولم يحدث في أية أمة بغتة تحول أكثر ابتعاثاً للغرابة وإثارة للدهشة من ذلك التحول الذي حدث بفرنسا فقد أسفت من سماء العبقرية إلى الحضيض الأوهد من ضؤولة الروح وحقارتها وانحطت من توفير الأديان وإجلالها إلى عدم التقوى والطغيان وتدلت من الأدب والحشمة إلى الفجور والفسق وقد كان من العبث أن أصيب فيها هدوءاً لخواطري القلقة وسكوناً لرغبات نفسي الحرار ولم أكن قد استوعبت بعد دروس الحياة ولم يكن بي على رغم ذلك سرور الغفلة وراحة الجهل وكان يتبين لي من سلوك أختي الغريب وتصرفها المبهم معي إنها يلذ لها أن ازداد تبرماً بالحياة وعزوفاً عن العيش وكانت قد رحلت عن باريز بأيام قلائل قبل عودتي فكتبت إليها أخبرها أن في نيتي أن ألحق بها ولكنها أبطأت في الرد لترجعني عن ذلك العزم بدعوى جهلها بالمكان الذي قد تقصده لإنجاز ما ترومه من الأعمال فكم توارد عليّ إذ ذاك من الخواطر الحزينة في الصداقة التي يزيدها القرب فتوراً وانحلالاً ويعفى البعد على معالمها ولقد كنت إذ ذاك غريباً في وطني وأردت أن أغامر في طلب دنيا تلفظني ولا تأبه بي وروحي التي لم يسترقها الهوى كانت تسعى وراء ما يقتاد أهواءها ويستنزل حبها ولكني تبدي لي أني أهب من الحب وانعطف أكثر مما يمنح لي ورأيت الناس لا يتطلبون مني منطلقاً مهذباً سامياً ولا شعوراً رائعاً عميقاً وكنت أحاول أن أصغر من شأن وأقتل من قيمتها أجعلها في مستوى الجماعة.