ووهبني الوجود، وكان لهذا المنظر في نفسي عليا التأثير ولا يزال ذكره إلى الآن يتجدد في قلبي ويتردد في خاطري، وهذه أول مرة تجلى فيها لناظري واضحاً جلياً خلود الروح، فقد كان لا يجول في بالي إذ ذاك أن هذه الجثة الهامدة الميتة هي التي أوحت إلي الفكر، وشعرت أنها تتصل بمنبع آخر وقد استولى على مشاعري حزن مقدش شماوي كان أقرب ما يكون إلى السرور، واتسق لي الأمل أني سألتقي بروح أبي، وإن زهرة حياته ستعود بعد التصوح إلى النضارة.

وقد ظهر لي منظر آخر زادني إعتقاداً بتلك الفكرة السامية وذلك أني رأيت ملامح وجه أبي وقد غشاها الجلال، واكتست بهاء وروعة، فلم لا يكون ذلك السر المبهم دليلاً ناهضاً على خلود النفس؟ ولك لا يكون الموت الذي وسع علمه كل شيء قد مسم تلك الجبهة بأسرار الحياة الأخرى؟ ولم لا يكون في القبر رؤيا فخمة للأبدية.

وكانت امليا وقد آدها حمل تلك الأحزان قد لاذت بحمى برج حيث كان ينسجم في آذانها تحت قبواه المبنية على الطراز القوطي أناشيد القساوسة في الجنازة ودقات الجرس المحزن، وقد شيت والدي إلى مثواه الأخير وموئله من ظلم الحياة، ورأيته وقد أهيل عليه التراب ووطئنه إذ ذاك أقدام الأبدية والنسيان، ودبت ظلال المساء غير مكترثة على قبره، ولولا تعلق ابنه وابنته بذكره لكان وكأن شخصه لم يلح على مسرح الأيام، وكأن اسمه على صحيفة الدهر، واضطررنا أن نبرح منزل والدنا لأنه صار من ميراث أخي، فعدت أنا وامليا وساكناً جماعة من ذوي قربانا، ولما حمتني الأقدار الدخول في مسالك الحياة الخادعة، أعملت فيها الفكر الواحدة بعد الأخرى قبل أن أخاطر بنفسي في اعتسافها وأقذف بمهجتي في إثارة غبار طرفها، وكانت امليا تزين لي الحياة الدينية، وتفيض في ذكر محاسنها وفي السعادة التي تتقاطر على النفس من صوبها، وكانت تقول لي وهي تنظر إليّ نظرات يتخللها الحزن وينبعث منها الأسى أنك أنت السبب الوحيد الذي يصلني بالدنيا، ولما امتلأت شعاب النفس بالاحساسات الدينية من فيض أحاديث امليا كنت كل يوم أزور صومعة قريبة من محل إقامتنا، وقد امتلكني مرة ميل شديد إلى أن أمضي حياتي هناك، ولله ما أسعد هؤلاء الذين قضوا حياتهم في سكون وعزلة، والأوروبيون دائماً في انفعال مستمر، ولذا تنزع نفوسهم إلى الراحة والسكون، وإنه كلما توالت القلب الثورات وترادفت

طور بواسطة نورين ميديا © 2015