يرى أن الأجمل به أن يلفها في أكفان النسيان ويكسوها من ظلمة الأبد، وقد استنت أعوام على هذه الوتيرة لم يستطع الشيخان في أثنائها أن يعلما مخزون دخيلته، ومكنون طويته. ثم وصله خطاب من أوروبا ضاعف أحزانه وأزكى قدة همومه، ولما تمادى به الأسى وكادت رواسي نفسه تميد من الألم فزع إلى صديقيه الشيخين وقد زادهما ذلك رغبة في استجاء غامض سره واستفتاح مغاليق نفسه، وقد أظهرا من حصافة العقل وركانة الحلم م لم يجد بعده ندحة عن إرضائهما، فضرب لهما موعداً لأليقص عليهما حوادث حياته التي لم يتمرس بتجاريبها ولم يزاول من أمورهما شيئاً، ولكن ليفضى إليهما بإحساساته الروحية وأسرارها، ففي اليوم الحادي والعشرين من ذلك الشهر الذي يسميه الهنود شهر بدر الأزهار صمد رنيه إلى كوخ شاكتاس واعار ذراعه للشيخ البصير وسدك به إلى سرحة فرعاء على ضفاف المسيسبي وكانت جوانب الليل قد تصدعت عن أنوا الفجر المتبلج، ولم يتريث الأب سويل عن الحضور في الميعاد المضروب، وعلى كتب في السهل كانت تتراءى للناظر قرية الناتشيز بأشجار توتها وأكواخها التي كانت تشابه خلايا النحل، وكانت المستعمرة الفرنسية وحصن روزالي قائمين في الناحية اليمنى، وكانت الخيام والمنازل التي لم يكتمل بناؤها والحصون التي لم يتم تشييدها والمزارع وقد انتشر فيها الزنوج البيض والهنود - أقول كانت كل هذه المشاهد في تلك البقعة تمثل للرائي البون الشاسع بين عادات المتدينين وعادات الهمج العاطلين من المدنية في أوضح الصور وابهر المجالي، ومن ناحية الشرق وشط تلك المناظر الرائقة كانت الشمس مقبلة تتهادى من وراء قنن جبال الأبالنسية المتكسرة، وقد كانت تلك القنن ترتسم على صفحة السماء المذهبة بأضواء الشمس في صورة حروف مصبوغة بلون لازوردي، ومن ناحية المغرب كانت أمواج المسيسيبي تطرد وقد رفرف عليها صمت فخم ضاربة أعطاف الهضبة في حلال لا يدركه التصور ولا يناله الوهم، فطار ذلك المنظر الأنيق بفؤاد الفتى وأخذ بلب الراهب فأنشأ يمتدحانه وقد احتواهما الأسف للشيخ البصير شاكتاس إذ ليس في وسعه أن يسرح الطرف في هذه المشاهد البديعة، ويتملى من تلك المحاسن الزاهرة، ثم أن الأب سويل وشكتاس اقتعدا العشب وأخذ رنيه مجلسه بينهما، وبعد سكون لم يطل أمده أخذ ينثر الكلام الآتي على مسامع الشيخين وهم جلوس تحت ظلال تلك السرحة المنهدلة فقال:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015