جميعاً أدنياء ليتقي بعضهم بأس بعض. أما أن يتقلد سوادهم سلاح الرذيلة والنزر القليل منهم سلاح الفضيلة وهو أضعف السلاحين وأوهمهما فليس لذلك إلا معنى واحد. وهو أن يهلك أشراف الناس وفضلاؤهم في سبيل حياة أدنيائهم وأنذالهم.
إن الدعاء إلى البر والإحسان والرحمة والشفقة والعدل والإنصاف والصدق والإخلاص في هذا العصر إنما هو حبالة ينصبها الدهاة الماكرون للضعفاء الساذجين لخدعوهم بها عن مائدة الحياة التي يجلسون عليها. فيستأثروا بها من دونهم. فلا يدعو الداعي إلى الكرم إلا لينل ما في جيوب الناس إلى جيبه. ولا إلى العفو إلا ليصيب بشره من يشاء دون أن يناله من الشر شيء. ولا إلى القناعة إلا ليتعلل من سواد المزاحمين له على أغراض الحياة ومطامعها. ولا إلى الصدق إلا ليستمتع وحده بثمرات الكذب ومزاياه.
كلنا يكذب فلم يعيب بعضنا بالكذب بعضاً. وكلنا يبسم لعدوه وصديقه ابتسامه واحدة فلم نستنكر الرياء، وكلنا يطمع في أن تكون له وحده جميع خيرات الأرض وثمراتها من دون الناس جميعاً فلم نستفظع الطمع. وكلنا يتربص بصاحبه الغفلة ليختتله عما في يده فلم نشكو من الظلم؟
إنا لا نفعل ذلك إلا لأنا نريد أن نستخدم الفضيلة في أغراضنا ومآربنا كما استخدم رؤساء الدين الدين في العصور الماضية. وكما استخدم رجال السياسة الوطنية في العصر الحاضر.
يجب أن يتعلم الطفل من أول يوم يجلس فيه أمام مكتب مدرسته أن الموجود في الحياة غير الموجود في الكتب وأن قصص الفضائل التي يقرؤها ونوادر المروءات والكرم والإيثار وأحاديث الشهامة والشجاعة وعزة النفس وإبائها إنما هي روايات تاريخية قد مضت وانقضى عهدها حتى لا يصبح ناقماً على العالم يوم ينكشف له وجهه ويرى سوآته وعوراته. وحتى لا يضيع عليه عمره بين التجارب والإختبارات.
ولو كنت أعلم من أصول الرذائل وقواعدها فوق القدر الذي أعلم منها لألفت للناشئ كتاباً دراسياً أبين له فيه كيف يكذب التاجر. ويغش الصانع. ويلفق المحامي. ويدجل الطبيب. ويختلس المرابي. ويرائي الفقيه. ويصانع السياسي. ويتقلب الصحفي. ثم أقول له هذه هي الحياة وهذا سبيل العيش فيها إن أردتها. فإن لم تردها فدونك مغارة موحشة في قمة من قمم