أدنى مسرة، وما هي إلا برهة من الوقت حتى تراه يود من صميم قلبه لو يصبح بحال تغشاه معها الآلام وتنتابه الأوجاع، وكم من مرة شاهدت المفلوج وقد نقه من علته يستقبل بأشد فرح والحبور عودة إحساس الألم لوخز إبرة، والألم هو نعم نذير الخطر وبريد الشر يؤذن باقتراب البلاء لنقوم للمكروه على قدم فنصده أو نراوغه، فحق علينا لذلك أن نعد الألم أصدق صديق وأحوط راع وكالئ ومصدر كل إحساس ممتع وشعور لاذ، إذ الألم هو الذي يبعثنا على مكافحة الشيء المسبب له وهذه المكافحة هي بمثابة أشد رياضة لقوانا العقلية وأقصي إجهاد لمواهبنا الفطرية والكسيبة وفي ذلك السرور الأعظم الأجل - أعني الفرح الذي لا يزال نتيجة إظهار فضلنا الكمين بالعمل وإبراز شخصيتنا، ولولا إلا لم لمْ تكد حياتنا تبقى لحظة إذ لا يكون معنا حينئذ ما يدلنا على عوامل البوار والتلف فننتقيها.

وبعد فإنه مهما سخط الساخطون على الدنيا فإنهم ليرونها مع ذلك مما يطاق احتماله، والإنسان بفطرته مجبول على الاستسلام - راضياً أو كارهاً - إلى ما ليس في وسعه تبديله، بل مجبول على إلفة ما قد يحيط به من المحتوم حتى يجد فيه ضرباً من المتاع واللذة، ويتعلق منه بسبب لا يحب أن يصرمه وعروة لا يرغب في فصمها فهو لا يبغى بقسمته بديلاً ولا يريد بحظه عوضاً، وإنما السر في ذلك أن النسيج الذي هو أساس حياة الإنسان والذي فوق رقعته يدبج الذهن نقوش الأحزان وتصاوير الأشجان - هذا النسيج هو التفاؤل لا التشاؤم.

ألا ترى المتشائم نفسه يسلم بجمال الطبيعة ويهتز ليوم الصحو تتألق شمسه في لازورد السماء ولليلة الأضحيانة يسري بدرها في حاشية الدراري، ومع كل ذلك فغنه لو هبط ساكن الزهرة فجأة إلى أرضنا هذه لأبصر نفسه في قفر موحش كله ظلام وقر، وذلك أنه لاعتياده في وطنه الضوء الباهر المعشى للبصر والحر اللافح المحرق للبشرة تراه إذا قام في أرضنا هذه أحس أنه في زمهرير وظلمة وبدت لعينه أبهج ألوان هذا العالم كامدة نافضة وأزهى أضوائنا كاسفة ضئيلة، وكذلك لو هبط إلى أرضنا ساكن زحل فقارن بين سمائه المشرقة بأقمار ثمانية وسمائنا ذات القمر الفرد إذن لأوحشه من أقفار خضرائنا وظلمتها قدر ما كان يؤنسه من لألا، خضراته الساطعة المنيرة لا تبرح أقمارها بين أفول وطلوع تتشكل في فلكها الرحب أشكالاً لا ترى مثله في سمائنا عين المنجم أو مقلة الساهر، ونحن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015