للغاية وهو لا يخرج نقلاً وتلفيقاً من كتب التراجم ودواوين الأدب ولكنه يخرج من الرأس المحيط والعقل الجبار والقلم الهائل فما القرآن بشعر شاعر ولا كتابة كاتب ولا خطابة خطيب ولا تأليف مؤلف ولكنه كلام إلهي بائن بنفسه متميز بإعجاز نظمه وأسرار تركيبه، فمن كتب عنه لا يكتب إلا مبتكراً وهذا الابتكار ليس علماً ولا صنعة ولا حفظاً ولا إحاطة ولكنه حظوظ ومواهب ورب ألف عالم مجتهد يحملهم عالم واحد قد رزقه هذه الموهبة.

ولا يفوتنك عناء الصبر الطويل الذي لابد منه لمن يقتحم هذه العقبة في الآداب العربية حتى يأكل الفكر أكلاً وحتى كأنما يحترم العمر فلا توفق إليه إلا موفق ولا يصبر عليه الصبور إلا بعون من الله. ولولا هذه العلة - علة الصبر الطويل والوقت الممدود - لكان أحق الناس بتحقيق هذا البحث أستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله فقد خرج من الدنيا وليس له في إعجاز القرآن إلا الفصل الذي كتبه في (رسالة التوحيد) أما في تفسيره فقد مر عليه مراً غير ملم ولا متوقف. وهو رحمه الله لم يكن يشكو من أمر شكاته من ضيق وقته وتزاحم أعماله وأنه لا يستطيع أن يتفرغ لشيء من أصناف التأليف كما يحب وبمقدار ما يقتضيه تجويد العمل.

وهذا الأستاذ المفكر الكواكبي رحمه الله قد أشار إلى إعجاز القرآن إشارة مقتضبة في كتابيه (أم القرى) و (طبائع الاستبداد) لم يثبت بها عجزاً ولم يحقق إعجازاً وكان رحمه الله دائم الفكر طويل النظر واسع الوقت متوفراً على أعماله، وما نظن أن شيئاً صرفه عن هذا الحث إلا معضلة البلاغة.

ولو شئنا لعددنا كثيراً ولكننا نقول في الجملة أن أديبنا الرافعي لا ينقصه شيء من الصفات التي لا بد منها في أحكام هذا الوضع، فهو بحيث يعرفه قراء العربية من بعد النظر وتوقد لذكاء وموهبة الابتكار وشدة النفس وصرامة العزيمة وسعة الإطلاع وقوة البلاغة والوقوف على أسرار البيان، وقد لبث يعمل في هذا الجزء سنتين من لدن أصدر الجزء الأول إلى الآن فلا يدع أن جاء كتابه من وراء الغاية، وخرج من الدقة والأحكام كما تخرج الآية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015